لم يكن النيل يومًا يعرف الحزن، كان يروي الحقول بفرحٍ يشبه التسبيح، وتتمايل على ضفّتيه الأشجار كأنها تسبّح لله شكرًا على النعمة. لكن في السودان تغيّر صوته، لم يعد يغني كما كان، بل صار يهمس بهمٍّ دفين، كأن بين كل موجةٍ وذكرى، وبين كل نسمةٍ ووجعٍ مكتوم. ومع ذلك، ما زال يجري. يجري بكرامةٍ كما يجري السودانيّ بالحياة: يَجرحُه الواقع، لكنّه لا يتوقف.
في السودان، حتى الصمت يتكلم. السماء قريبةٌ من الأرض كأنها تمدّ ذراعيها لتحتضنها بعد طول تعب، والأرض كأنها أمٌّ تُرضع صغارها من دمعها، فلا تشكو، ولا تجزع، بل تواصل احتضانهم بالحنوّ. الناس هناك لا يصرخون، لأنهم تعلّموا أن الأنين لا يُسمع في عالمٍ اعتاد الضجيج. يواجهون القسوة بالدعاء، ويقابلون الفقد بالشكر، وكأنهم اتفقوا أن الكرامة آخر ما يُهزم في الإنسان. في أم درمان، تجلس امرأةٌ عجوز أمام بيتٍ صار نصفه ركامًا ونصفه ذاكرة. تغلي الماء في قدرٍ صدئ، كأنها تريد أن تقول للحياة: “أنا ما زلت هنا.” بجانبها حفيدٌ صغير، بعينين فيهما دهشة الطفولة وحكمة الفقد. يسألها بصوتٍ خافت: جدتي، هل سيعود أبي؟ فتغلق الغطاء برفقٍ، وكأنها تخاف على الحلم أن يتبخر، وتقول: سيعود يا بُنيّ، فكل من صدق الله يعود… ليس إلى البيت، بل إلى رحمته. ثم تبتسم بعينٍ دامعةٍ تشبه نافذةً مفتوحة على السماء.
كانت تلك الجدة ليست امرأة فقط، بل كانت رمزًا للوطن نفسه: تطهو الأمل على نارٍ هادئةٍ، وتُغلي الصبر كي لا يبرد الإيمان. أما الحفيد فكان رمزًا للجيل القادم، الذي يبحث عن معنى الوطن في وجه جدّته أكثر مما يجده في خرائط الأرض. وفي حيٍّ آخر من الخرطوم، شابٌّ يكتب على جدارٍ رماديٍّ بكفٍّ مرتعشة: “لسنا ضحايا… نحن شهود.” لم يكن يعرف أنه كتب جملةً ستصبح صوت الوعي الجمعي، تصرخ بالكرامة في وجه الخراب، وتذكّر العالم أن الحياة تُنتصر حين يظل الإنسان حرًّا رغم القيود.
في السودان، المشهد لا يُقرأ بالعين فقط، بل بالقلب أيضًا. ترى من بعيد طفلًا يضحك بين الركام، فيظن قلبك أنه لم يفهم المأساة، لكنه في الحقيقة يفهم الأمل أكثر منا جميعًا. ذلك الطفل هو السودان الآخر، السودان الذي يرفض أن يُغرقه الحزن، والذي يبتسم للنيل فيبتسم النيل له. لم يكن هذا المقال عن الحرب، بل عن الذين ظلّوا بشرًا حين أراد العالم أن يُطفئ إنسانيتهم. عن الذين قسّموا رغيفهم ليبقوا على قيد الكرامة، والذين ما زالوا كل مساءٍ يقولون لأطفالهم: “غدًا سيكون أجمل”، رغم أن الغد ما زال بعيدًا. هؤلاء يصنعون الأمل بيدٍ، ويزرعون الصبر بالأخرى، ويثبتون أن النور لا يحتاج كهرباء، بل يقينًا.
كنتُ أمشي ذات مساءٍ على ضفة النيل في الخرطوم، السماء تميل إلى الرماديّ كأنها تتهيأ للعَبرَة. رأيت رجلًا ستينيًّا يجلس على حجرٍ مكسورٍ، يحدّق في الموج بعمقٍ يشبه الصلاة. سألته: ماذا تنتظر يا عمّ؟ فقال بابتسامةٍ بطيئةٍ كأنها تُولد من رحم الصبر: أنتظر أن يبتسم النيل… حين يبتسم، أعرف أن السودان بخير. كانت جملته قصيرة، لكنها حملت من الحكمة ما لم تحمله كل خطب الأمم المتحدة. ذلك الرجل كان رمزًا للضمير السوداني، لا يطالب بالانتقام، بل بعودة البسمة، لأن في بسمة النيل خلاص وطنٍ بأكمله. إنّ السكوت على الظلم مشاركةٌ فيه، كما قيل. ولذلك لا ينبغي أن نصمت. ليس لأننا نملك الحل، بل لأننا نملك الضمير. السودان لا يطلب منّا المستحيل، فقط أن نشعر به كما نشعر بأنفسنا، أن نمدّ له قلوبنا قبل أيدينا، وأن نُعيد تعريف “النجدة” بأنها ليست إحسانًا، بل عهدُ أخوّةٍ لا يسقط بالتقادم.
أيها العالم… ليس الصمت حيادًا، إنه خيانة. فحين ينزف السودان، لا يحقّ للأرض أن تدّعي السكينة، لأن جزءًا من ضميرها يتألم هناك. أين المنظمات التي صاغت مواثيق الرحمة؟ أين الذين ملأوا الدنيا شعاراتٍ عن العدالة والإنسان؟ كلّ بيانٍ لا يُداوي جرحًا على ضفاف النيل، ليس سياسة، بل نسيان. السودان ليس نشرة أخبار، بل امتحانٌ أخلاقيّ للعالم. من ينجح فيه يُثبت أنه ما زال إنسانًا، ومن يتجاوزه بلا إحساسٍ، يسقط في إنسانيته قبل أن يسقط في تاريخه.

وفي الليالي الهادئة، حين ينام الصخب، تسمع أنين السودان كأنه صلاةٌ طويلةٌ ترفعها الأرض إلى السماء. لا كلمات فيها، فقط وجعٌ نقيّ يسأل الله أن يعلّمنا كيف نصبر، وأن يعلّم العالم كيف يشعر. عندها تدرك أن الدعاء وحده قد يكون أعظم وسيلة للنجاة، لأنّه يُعيد ترتيب أولوياتنا ويذكّرنا أن المروءة ليست في البكاء على الوجع، بل في السير نحو الجرح بالرحمة لا بالفضول. وليس السودان وحده من يُختبر اليوم، بل نحن أيضًا نُختبر في إنسانيتنا. هل ما زال فينا من يبكي.