في مجتمعات تُصنَّف بين الأغنى عالميًا، وقدراتها الاقتصادية تُعدّ من الأعلى من حيث نصيب الفرد، يبدو الحديث عن الفقر ضربًا من المفارقة.
لكنَّ ثمة فقراً لا يظهر في التقارير، ولا يُشاهد في الشوارع، بل يسكن البيوت التي تبدو مستقرة من الخارج؛ إنه الفقر الخفي، الذي يتخذ من الديون عنوانًا له، ومن العجز عن الاستمرار دون استدانة مظهرًا صامتًا يتزايد عامًا بعد عام.
من مظاهر المعيشة إلى فخ الديون
في كثير من دول الخليج، أصبحت الديون الاستهلاكية طريقًا يسلكه الآلاف، لا من باب الترف، بل لتأمين الضروريات أحيانًا.
فالأسرة التي ترسل أبناءها للمدرسة الخاصة، وتسكن في شقة بالإيجار، وتمتلك سيارة مستعملة، قد تكون عاجزة عن سداد التزاماتها، وتعيش على بطاقات الائتمان أو أقساط لا تنتهي.
وتتزايد هذه الحالة لدى فئات:
- الشباب المقبلين على الزواج.
- الموظفين الجدد.
- المتقاعدين بعد فقدان دخلهم الكامل.
- الأرامل والمطلقات المعيلات دون دعم كافٍ.
أسباب تزايد الفقر الخفي في الخليج
1- الضغوط الاجتماعية والثقافية:
– كلفة المظاهر في الزواج والمناسبات وتوقعات المجتمع تشكل عبئًا يفوق القدرة الحقيقية.
2- غياب الثقافة المالية:
– سوء إدارة الميزانيات الشخصية وتجاهل مفاهيم التوفير أو الاستثمار.
3- سهولة الوصول للتمويل الاستهلاكي:
– بعض البنوك والمؤسسات تقدم قروضًا دون تقييم كافٍ لقدرة السداد.
4- تضخم تكاليف الحياة في مقابل ركود الدخول:
– ارتفاع مستمر في أسعار السكن، والتعليم، والصحة، مقابل دخول ثابتة.
الغارمون.. صورة صارخة للفقر الخفي
في ظل هذه الظروف، يظهر مفهوم الغُرم بقوة، وهو ما يعرف بالمديونين العاجزين عن السداد، وغالبًا ما يُلاحقون قانونيًا أو يدخلون السجن بسبب قروض صغيرة أو التزامات متراكمة.
وفي الكويت والخليج، تزايدت حملات «تفريج كربة» و«الإفراج عن الغارمين والغارمات»؛ ما يعكس حجم الظاهرة، إذ:
- يُسجن البعض بسبب أقساط الأجهزة أو بطاقات ائتمان.
- وتُلاحق نساء أرامل أو معيلات بعد العجز عن سداد ديون صغيرة.
- ويُحرج بعض الشباب ممن استدان للزواج ثم عجز عن الإيفاء.
دور الجمعيات الخيرية في مواجهة هذا الواقع
رغم صعوبة المهمة، كان للجمعيات الخيرية في الخليج دور جوهري في مواجهة هذا النوع من الفقر، من خلال:
- حملات كبرى لسداد ديون الغارمين.
- إطلاق صناديق زكاة مخصصة للغارمين؛ كما في قوله تعالى: (وَالْغَارِمِينَ) (التوبة: 60)؛ وهم من مصارف الزكاة الثمانية.
- نشر التوعية المالية والتخطيط الأسري.
- تمويل مشاريع صغيرة للعائلات محدودة الدخل بدلًا من الاعتماد على القروض.
وقد قدمت وزارة الشؤون الاجتماعية الكويتية ومؤسسات خيرية كويتية نماذج ناجحة في ذلك، سواء من خلال برامج السداد، أو مبادرات التمكين، أو التوعية المجتمعية.
الحل ليس فقط في المال
إن معالجة الفقر الخفي والغُرم لا تتم فقط من خلال تسديد الديون، بل من خلال:
- إصلاح ثقافة الاستهلاك.
- إطلاق برامج تمكين اقتصادي حقيقي (حرف، مشروعات صغيرة).
- تطوير نظم دعم اجتماعي مستدامة وليست آنية
- تعزيز الشفافية والمسؤولية في الإقراض والتمويل.
في الخليج، ليس كل غني مُستغنياً، ولا كل بيت آمناً من الحاجة.
الفقر لا يظهر فقط في الجوع، بل في الدَّيْن الذي يُلاحق، وفي الكرامة التي تُستنزف، وفي العجز عن التوازن بين الواقع والمظهر.
ولعل أجمل الصدقات ليست ما يُعطى لمن يسأل، بل ما يُقدَّم لمن تعفف وهو في الدين مأسور.