ساهم التغيير في النظام السوري الذي جثم على قلب السوريين طوال ما يقارب الستين عاماً، في بدء عملية تخفيف القيود الأمريكية، وقد نُفذت الجولتان الأوليتان من رفع العقوبات في يناير/كانون الثاني ومايو/أيار من هذا العام (2025)، حيث أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية عدة تراخيص عامة. 

فقد سمحت الأولى بإجراء معاملات في مجال الطاقة مع الحكومة السورية، بالإضافة إلى التحويلات الشخصية والتجارية، أما الثانية، فقد أتاحت إجراء معاملات مع مصرف سوريا المركزي و27 جهة حكومية وخاصة أخرى.

كما اتخذت السلطات الأمريكية مطلع الأسبوع خطوات أكثر جدية لرفع العقوبات، ففي 30 يونيو/حزيران، حيث وافق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إلغاء ستة أوامر عقوبات مفروضة على سوريا دفعةً واحدة، من بينها الأمر رقم 13338 لعام 2004، الذي فرض حظرًا على تصدير السلع العسكرية وذات الاستخدام المزدوج، وقيّد وصول الطيران المدني السوري إلى الولايات المتحدة، وألزم الجهات المعنية بتطبيق إجراءات حجب ضد الأشخاص المرتبطين بالرئيس السابق بشار الأسد، كما ألغى ترامب، على وجه الخصوص، الأمر رقم 13460 لعام 2008، الذي ينص على إمكانية تطبيق قيود حجب ضد المواطنين السوريين والمنظمات المتورطة في الفساد وفق وسائل إعلام.

بالإضافة إلى أن تدابير أخرى اتخذت أيضاً للتخفيف من وطأة هذه الإجراءات، حيث بدأت وزارة الخارجية الأمريكية العمل على رفع العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر، كليًا أو جزئيًا، والذي ينص على قيود على التعاملات مع مصرف سورية المركزي، ويضع آلية لفرض عقوبات على دول ثالثة لتعاونها مع سلطات الجمهورية، وقد عُلّق العمل بقانون محاسبة سوريا وحظر الأسلحة الكيميائية.

كما رُفعت القيود المالية المفروضة على أكثر من 500 فرد ومؤسسة سورية، والتي كانت تمنع التعامل مع أشخاص مدرجين على قوائم العقوبات، وفي الوقت نفسه، تم حظر ما يقرب من 140 فردًا وكيانًا قانونيًا مرتبطًا بحكومة بشار الأسد السابقة (مسؤولون سابقون وأفراد عائلاتهم، وغيرهم). وهكذا، تُثبت الولايات المتحدة الأمريكية أن أي تنازلات ممكنة فقط في حال بقاء القيادة الموالية لها.

لقد أصبح مجرد الرفع الفوري للقيود المفروضة على سوريا، والتي شُدّدت باستمرار لأكثر من عقدين، خبرًا مهماً، وقد يُنظر إلى هذه الخطوات، دون قصد، من قبل المراقبين على أنها إشارة إلى قدرة الولايات المتحدة على التفاوض، وربما التوصل إلى اتفاقات بشأن مراجعة سياسة العقوبات. 

ومع ذلك، فإن هذه التوقعات سابقة لأوانها. فالعامل الرئيسي لرفع العقوبات عن سوريا هو تغيير القيادة السياسية في البلاد وبدء سياسة تُلبي مصالح الولايات المتحدة. لكن بالنسبة لدول أخرى مثل روسيا يستحيل حدوث مثل هذه التغييرات. كما أن الدول الأخرى الخاضعة لقيود أمريكية كبيرة، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية، لم تُبدِ بعد أي بوادر على التخلي عن مواقفها.

ومع ذلك، لا تزال الدعوات لتشديد القيود المفروضة على روسيا مستمرة في الكونغرس الأمريكي، من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء. على سبيل المثال، قدّم السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام مشروع قانون يفرض رسومًا جمركية بنسبة 500% على الواردات من الدول التي تشتري النفط والمنتجات البترولية والغاز الطبيعي واليورانيوم ومنتجات أخرى من روسيا، ونادرًا ما تتجاوز هذه المقترحات الجذرية المرحلة الأولى من الدراسة، ولكن في حال مراجعتها، يُمكن الموافقة عليها. في 3 يوليو/تموز، جرت محادثة هاتفية أخرى بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين. لم تُعلن أي تهديدات بفرض عقوبات جديدة. ومع ذلك، لا تزال مخاطر تصعيدها قائمة.

كما من المهم أيضًا أن رفع العقوبات عن سوريا حتى اليوم لا يضمن استدامة هذه السياسة. جميع الخطوات التي اتخذتها السلطات الأمريكية قابلة للتراجع بسهولة. أولًا، يمكن استعادة مفعول الأوامر التنفيذية بالكامل إذا بدأت دمشق باتباع سياسة غير ملائمة للولايات المتحدة، وبالمثل، أُعيد فرض كامل الإجراءات التقييدية ضد إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) عام 2018، ثانيًا، يمكن إلغاء استثناءات القوانين الفيدرالية بسرعة، في الوقت نفسه، يكاد يكون إلغاء القوانين نفسها مستحيلًا نظرًا لخصوصيات ممارسات صنع القرار الأمريكية.

وفي النهاية، ينبغي التعامل بحذر شديد مع احتمالية استدامة المسار الأمريكي الحالي في سوريا، وكذلك مع إمكانية تطبيق هذه السياسة على روسيا. في الحالة الأولى، تحتفظ الولايات المتحدة بحق التلاعب بالتنازلات الحالية، وفرض شروط وقواعد لعب معينة على الحكومة السورية. ولا يمكن تخفيف القيود المفروضة على روسيا إلا في حال تقديم تنازلات كبيرة. ولن تقدم موسكو مثل هذه التنازلات. وهذا يعني أن أي مقارنات مع سوريا لا معنى لها.

لكن المنطقة تغلي وتسير بخطوات متسارعة نحو بناء جديد ليس سوريا وحدها، فالتغيير قادم على ما يبدو لكل المنطقة ولا دولة خاصة دول الجوار ستستطيع مقاومة هذا المد الجديد، قد لا يعجب البعض لكنه واقع رسم وفق مخطط قديم وها نحن نراه أمام أعيننا ولعله يعيد بنا الأذهان إلى اتفاق سايكس بيكو الذي فرض "إسرائيل" كأمر واقع، لكن اليوم هناك سايكس بيكو سيزج بها في كل المنطقة.

لذلك يجب أن ننعي الأمة العربية رسمياً، وأن إما أن نقاوم أو نبارك السلام بنكهته الأمريكية-البريطانية.