في عالم تتزاحم فيه المؤسسات على كسب “كفاءة الأداء”، يتوارى أحيانًا سؤال “الجدارة الأخلاقية”، وكأن الفعالية قد أصبحت غاية مستقلة عن وسيلتها. بين معايير صارمة تُقاس بالأرقام، ومبادئ سامية تُختبر في المواقف، تقف المؤسسات المعاصرة أمام تحدٍّ وجودي: هل يمكن النجاح المهني بمعزل عن النزاهة؟ وهل تكفي الآليات دون قيم؟ ضمن هذا الإطار الجدلي، يسعى هذا المبحث إلى تقديم معالجة رمزية مبتكرة، من خلال محاكاة حوارٍ تخييلي، يجسّد مناظرة فكرية بين اثنين من أعمدة الفكر المؤسسي الحديث:
•“الجودة”، ممثلة في نظم الأيزو، بما تحمله من دقة ومعايير وصرامة تنظيمية،
•و”الحوكمة”، بما تمثله من التزام، وشفافية، ووفاء أخلاقي لمصالح أصحاب المصلحة.
ليس هذا النص سردًا بلاغيًا فحسب، بل مدخلٌ تأمليٌّ عميق برسالة دكتوراه في أحد مباحثها، من خلال دراسة أثر الحوكمة في تحسين أداء المؤسسات، متخذة من نماء الخيرية نموذجًا واقعيًا وتحليليًا يُجسّد هذا التكامل، نص الحوار: الآليات تتكلّم، والقيم تردُّ
في قاعة افتراضية لا تحدّها جغرافيا ولا تحكمها ساعة، اجتمع رمزان من رموز الفكر المؤسسي الحديث: “الجودة” ممثّلة في نظم الأيزو، رمز الانضباط والتماهي مع المعايير العالمية، و”الحوكمة” تجلّي الشفافية والمساءلة، ورمز الاتزان الأخلاقي في صميم القرار المؤسسي، لم يكن اللقاء ودّيًا منذ اللحظة الأولى، بل أشبه بمناظرة بين قلبٍ نابض بالعقل وقلبٍ نابض بالضمير. بين من ترى العالم أرقامًا ومعايير، ومن تنظر إليه قيمًا ومسؤوليات. جلسا متقابلَين، كأنما يستعدّان لاختبار وجوديٍّ للمؤسسات.
بادرت الجودة الحديث، بنبرة دقيقة كما لو أنها خرجت من مختبر معتمد: “أنا محرّك المؤسسة. حين تسير وفق معاييري – iso 9001 للجودة، iso 14001 للبيئة، وغيرها – تُصبح مثل آلة متقنة، كل ترس فيها يعرف وظيفته. أنا من أحوّل الفوضى إلى إنتاج، والعشوائية إلى كفاءة. بدوني، ستغرق السفينة في تفاصيل غير منضبطة.”
ردّت الحوكمة بنظرة عميقة، تحمل في طيّاتها مزيجًا من الحكمة والمسؤولية: “صحيحٌ ما تقولين، يا جودة، لكنّ السفينة وإن امتلكت محركًا متقنًا، تحتاج بوصلة أخلاقية توجهها. ما فائدة أن تسير بسرعة إذا كانت تتجه نحو هاوية؟ أنا لا أراقب فقط، بل أضمن أن تكون القرارات عادلة، والإجراءات شفافة، والمساءلة قائمة. إن ما تعطينه من نظام، أضبطه أنا بمعايير العدالة والمصلحة العامة.”
تأهبت الجودة، وكأنها تستشعر تهديدًا لهيمنتها، وقالت بحدة: “مؤسسات العالم تتسابق للحصول على شهاداتي. تُطبع شعاراتي على واجهات الشركات، وتُبنى السياسات على توصياتي. أنا أرتّب العمليات، وأُحسّن المنتج، وأمنح المؤسسة وجاهة تنافسية. أما أنتِ، فغالبًا ما تبقين في الكواليس، حديثًا بين القانونيين والمجالس.”
ابتسمت الحوكمة، ثم قالت بسخرية ناعمة: “وهذا جوهر المشكلة. فكم من مؤسسة انهارت رغم التزامها بكل معايير الجودة، لأنها غفلت عن النزاهة؟ هل نسيتِ قصص تلك الشركات العملاقة التي سقطت أخلاقيًا قبل أن تسقط ماليًا؟ الجودة قد ترفع السقف، لكن إن لم تكن الجدران أخلاقية، فسينهار البيت.”
هنا احتدم النقاش.
قالت الجودة، متمسكة بمنهجها: “أنا لا أُنكر قيمة الأخلاق، ولكنني معنية بالكفاءة. أقيس، أقيّم، أُحسّن. التزامي موضوعي. أنتِ تضعين معايير مثالية، لكن من يضمن تطبيقها؟ إنكِ تطلبين ما لا يُقاس، وتُنادين بما لا يُحسب.”
ردّت الحوكمة بثقة: “بل أطلب ما لا يُشترى. أنا أضع المبادئ التي تضمن أن تكون كفاءتك في خدمة الإنسان، لا على حسابه. أنا من أُذكّر بأن المؤسسة ليست مجرد آلة للربح، بل كيانٌ له أثر ومسؤولية. أنا من تُعطي لعملكِ معنى، ولنتائجكِ ضميرًا.”
ساد صمت. كأن الجودة بدأت تدرك أن الطريق الأمثل لا يُعبد فقط بالإجراءات، بل بالقيم. قالت بعد تروٍّ:
“ربما… لم أكن أرى الصورة كاملة. فحتى معايير مثل iso 26000، التي تُعنى بالمسؤولية الاجتماعية، تعكس حضوركِ. ولكن، اسمحي لي أن أسألك: كيف تضمنين أن تُطبق قيمك في مؤسسات لا ترى فيكِ إلا توصيات طيّ الأدراج؟”
أجابت الحوكمة: “بتحويل الثقافة المؤسسية إلى التزام. حين يكون القائد مسؤولًا، والمجلس مستقلًا، وتكون الرقابة فاعلة، تتحوّل القيم إلى واقع. وعندها، نعمل معًا، أنا وأنتِ. أنتِ تمنحين الدقة، وأنا أضمن العدالة. أنتِ تسيرين بالمؤسسة على خطٍّ مستقيم، وأنا أضمن أنها لا تنحرف أخلاقيًا.”
ابتسمت الجودة هذه المرّة بودّ: “إذن، نحن لسنا على طرفي النقيض، بل جناحا التحليق.” قالت الحوكمة بحزم ناعم: “بل نحن العُمق والرؤية. أنتِ تمسكين بزمام الأداء، وأنا أضبط بوصلة المقاصد. لا قيمة لمحرك لا يعرف وجهته، ولا لمعنى لا يمتلك أدوات تحققه.” وهكذا اختُتم الحوار… لا باتفاق تقني، بل بإيمان مشترك بأن المؤسسة الناجحة لا تركض خلف الأرقام فقط، بل تعي أثرها على الإنسان والبيئة والمستقبل. وكما قال بيتر درَكر: قد تبني الأنظمةُ كفاءة الأداء، لكن القيم وحدها هي التي تهدي البوصلة.” وصدق العقاد إذ قال:“النجاح الحقيقي هو التقاء الجهد المخلص مع القيم النبيلة.”