لم يكن اليوم جمعة، ولا الموعد ندوة كبرى، ولم يُعلّق على أبواب المؤسسة إعلان يقول: “سيُفتح فينا بابٌ للخلود”. ومع ذلك، في ذلك الصباح الرماديّ الذي انسلّ على استحياء في زوايا “مؤسسة الإنسانية ”، دوّى حوارٌ بين رجلين، كان كأنّه يمثّل جبهتي الزمان: واحدة تؤمن أن المعنى أوّلًا، والأخرى لا ترى من الأمل إلا ما تسعه الخزينة.

كان “سليم” يدخل المكتب بخطى لا تعرف التردّد. فيه شيء من سكينة الذين يعرفون طريقهم وإن لم يملكوا خارطة. يحمل تحت ذراعه ملفًا، لكنه – في الحقيقة – كان يحمل حلمًا بكامله. جلس بهدوء كأنّه يلقي بظلّه في المكان، لا بجسده، ثم وضع الملف على الطاولة بينه وبين “هيثم”، زميله الذي قضى سنواته الأخيرة وهو يوازن بين الإيراد والمصروف كما لو كان ينقذ السفينة من الغرق كل صباح.
قال سليم، وابتسامة من يعرف ما لا يُرى تحيط بوجهه: “هذا مشروع عيادة الحياة في غرب أفريقيا… في أقصى بقعة نسيتها الخرائط، يتنفس الناس الألم بلا تشخيص، ويولد الأطفال قبل أن تصل إليهم أذرع المساعدة”.

رفع هيثم رأسه من أوراقه كأنّه انتُزع من جدول محاسبي، وقال باقتضاب:
“والموازنة؟” “ليست جاهزة بعد”، أجاب سليم، “لكن الفكرة جاهزة… والنية مشتعلة”. ضحك هيثم، ضحكة قصيرة فيها شيء من الارتباك، وقال: “سليم، نحن نشتغل على قد فلوسهم، مش على قد أحلامنا. لا في تمويل، ولا اعتمدنا بند، ولا في ضمان للاستدامة. أنت بتحلم… وأنا بدفع فواتير”.

ابتسم سليم، بهدوء مَن سمع الاعتراض ألف مرة ولم يتخلّ عن الحلم، ثم قال: “هيثم، نحن لا ندير شركة مقاولات… نحن نعيد تشكيل أثر. المسيري كتب مرة أن الاقتصاد حين ينفصل عن القيمة يتحول إلى عبودية ناعمة، تقتل الروح ونحن نظنّها تطورًا. ومشروعنا هذا، ليس له كلفة فقط… له قيمة. وله ملامح من الناس الذين لن يتحدث عنهم أحد إلا نحن.”

هيثم، وهو يعاود النظر إلى ورقةٍ بين يديه، قال دون أن يرفع رأسه:
“بس الناس مش هتأكّلهم النوايا. لو بدينا المشروع وما كملش؟ هانكون بنبيع أوهامًا”. أجابه سليم بصوت انخفض لكنّه ازداد رسوخًا:
“ليست كل المشاريع تُقاس بالكمال الظاهري. هناك مشاريع تُقاس بمجرّد أنك بدأت، لأن البداية وحدها فعل مقاومة. غنيمة… تلك العجوز المحسنة الكريمة التي جاءت قبل وفاتها بأشهر، وقدّمت وصيتها لتُصرف في مشروع صحي، لم تقل لي: تأكّد من الضمانات. قالت لي: أريد أن تذهب أموالي إلى مكانٍ لا يشعر فيه الإنسان بأنه مهمل… حتى لو لم يُشفَ. أتعرف كم من الأرواح تنهار قبل أن يمسّها المرض؟”

سكت هيثم، هذه المرّة طويلًا، ثم قال بصوت متراجع: “لكن الصراحة؟ أنا خايف… خايف نبني جدارًا ونتركه بلا سقف. خايف نحلم زيادة عن اللزوم”. اقترب سليم أكثر، وضع يده على حافة المكتب، كأنه يريد أن يقرّب المسافة بين الواقع والضمير، وقال: “بل أخاف أنا… أن نبني موازنة كاملة ولا يكون فيها إنسان.
هل تدري أن ابن خلدون قال: الغاية من الملك العمران، والغاية من العمران تحقيق العدل… وأنا أقول لك: الغاية من هذه المؤسسة ليست التقارير، بل الإنسان الذي لا نراه، والذي ينتظر أن نقف معه مرة دون أن نسأله عن العائد.”

“العائد…” قالها هيثم شاردًا، ثم نهض فجأة، مشى نحو النافذة، ونظر نحو شجرة يتساقط ظلها على الرصيف.قال: “هل تصدّق… أنني أحيانًا أشعر بالاختناق؟ مش لأنّي لا أفهم الأرقام، بل لأنّي بدأت أشعر أنها تفهمني أكثر مما أفهم نفسي.
أصبحتُ آلة. أنظر إلى الورقة… وأتجاهل الورم الذي على صدر الطفل في الصورة.” استدار، وكان وجهه قد خفّ عنه ذلك التخشّب الإداري، كأن شيئًا داخله انكسر فأشرق، وقال: “ابدأ، سليم. لا تكتب المشروع… ابدأه. وإن تعثّر… نتعثّر معه، لكن نعرف أننا حاولنا أن نكون شيئًا يشبه غنيمة.”

بعد أسابيع، لم تُرسل نشرة تمويل، ولم يُعلّق إعلان كبير، ولم يُدشّن المشروع بمؤتمر. لكنه بدأ. وُضعت أول لبنة. وصار هناك جدار يحمل اسم “عيادة الحياة”، دون زخارف. فقط لافتة صغيرة تقول: “لمن لم يجد مكانًا في حسابات العالم، فليجد فينا فسحة من رحمة.” وللمرة الأولى، كتب هيثم في دفتره بندًا جديدًا: “العائد المعنوي: حياة كاملة لم تكن لتُخلق لولا إيمان سليم… ووصية غنيمة.” ومنذ ذلك اليوم، لم تعد الموازنة عنده بندًا صامتًا… صارت نَصًّا يُروى