في ظلّ تحوّلات جيوسياسية كبرى تهزّ الشرق الأوسط، تبرز تصريحات دونالد ترامب الأخيرة في الرياض حول رفع العقوبات عن سوريا كأحد أكثر الملفّات تعقيداً وإثارة للجدل، هذه الخطوة التي جاءت خلال جولة ترامب الخليجية الأخيرة، لم تكن مجرّد تصريح إعلامي عابر، بل حملت في طيّاتها أبعاداً استراتيجية عميقة قد تعيد تشكيل التحالفات الإقليمية برمّتها.

فمنذ إعلان ترامب عن نيئته هذه، انقسمت الساحة السياسية بين مؤيّد يرى فيها فرصة تاريخية لإنهاء الأزمة السورية، ومعارض يعتبرها مجرّد مناورة انتخابية تهدف إلى كسب أصوات الجاليات العربية في أمريكا.

فالمشهد السوري اليوم يشبه إلى حدّ كبير لوحة فسيفساء معقّدة، حيث تتداخل فيها المصالح الدولية مع الحسابات الإقليمية والصراعات الداخلية، فمن جهة، هناك الموقف الروسي الثابت في دعم النظام السوري، والذي تجلّى مؤخّراً في تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي أكّد فيها على ضرورة احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها، ومن جهة أخرى، هناك الضغط الإيراني المتواصل للحفاظ على نفوذه في سوريا عبر شبكة معقّدة من الميليشيات المسلّحة والعلاقات الاقتصادية، وفي وسط هذا كلّه، تقف الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، تحاول استعادة نفوذها التقليدي في دمشق من بوابة إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية.

لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما الذي يمكن أن تقدّمه دمشق فعلياً في مقابل رفع العقوبات؟ تشير المعلومات الواردة من دوائر صنع القرار في واشنطن إلى أنّ الإدارة الأمريكية تضع شروطاً صارمة تشكّل في مجملها اختباراً حقيقياً لمرونة النظام السوري، أوّلها وأكثرها إثارة للجدل هو المطلب الأمريكي بالانسحاب الكامل للنفوذ الإيراني من الأراضي السورية، بما في ذلك إغلاق القواعد العسكرية وإنهاء دعم الميليشيات التابعة لطهران، هذا الشرط وحده يمسّ صميم التحالف الاستراتيجي بين دمشق وطهران الذي استمرّ لعقود طويلة، ويضع النظام السوري أمام خيارات صعبة قد تكون لها تداعيات كبيرة على استقراره الداخلي.

أمّا الشرط الثاني والذي لا يقلّ حسّاسية فهو المتعلّق بالضمانات الأمنية لإسرائيل، حيث تطالب واشنطن دمشق بمنع أيّ عمليات عسكرية تنطلق من أراضيها ضدّ الجارة الجنوبية، وترسيم واضح لحدود منطقة خفض التصعيد في الجولان السوري، وهذا الملفّ الشائك يلامس أحد أكثر القضايا إثارة للجدل في الصراع العربي - الإسرائيلي، وقد يكون نقطة الخلاف الأكبر بين الطرفين، كما تبرز شروط أخرى تتعلّق بحلّ ملفّ المقاتلين الأجانب وإطلاق عمليّة مصالحة وطنيّة شاملة، وهي جميعها مطالب تمسّ البنية التحتية للنظام السياسي في دمشق.

بالتالي، إن ردّ الفعل السوري الرسمي على هذه الشروط جاء بحسب المراقبين متّصفاً بالحذر الشديد والمرونة التكتيكية، فمن ناحية، أبدت دمشق استعدادها للنظر بجدّية في كافّة المبادرات، كما ظهر في تصريحات وزير الخارجية السوري الأخيرة. لكنّ مصادر دبلوماسية مطلعة تكشف عن خطوط حمراء واضحة وضعها النظام السوري، خاصة تلك المتعلّقة بالسيادة الوطنية والبنية الدستورية للبلاد، كما يبدو واضحاً أنّ القيادة السورية تدرك جيّداً قيمة الورقة الاقتصادية التي تمثّلها العقوبات الأمريكية، حيث تشير تقديرات دولية إلى أنّ الحصار الاقتصادي كلّف سوريا خسائر فاقت 120 مليار دولار منذ عام 2011.

أما في الجانب الأمريكي، تواجه خطوة ترامب هذه معارضة شديدة من دوائر صنع القرار في واشنطن، وخاصة في أروقة الكونغرس حيث لا يزال الإجماع قائماً على ضرورة محاسبة النظام السوري، فقانون قيصر الذي أقرّه الكونغرس الأمريكي عام 2019 يبقى العقبة الكبرى أمام أيّ تخفيف للعقوبات الأمريكية والغربية، حيث يشترط موافقة الكونغرس على أيّ خطوة في هذا الاتّجاه، كما أنّ الملفّات العالقة مثل محاسبة مجرمي الحرب والمصالحة الوطنيّة تبقى نقاط خلاف جوهرية قد تعطّل أيّ تقدّم في هذا المسار.

وعلى الصعيد الإقليمي، تتفاعل الأطراف المختلفة مع هذه التطوّرات بدرجات متفاوتة من الحماس والتحفّظ، فالكيان الصهيوني يبدو قلقاً بشكل واضح من أيّ تقارب أمريكي - سوري قد يؤثّر على أمنها القومي، بينما تبدو السعودية والإمارات أكثر انفتاحاً على هذه الخطوة، خاصة في ظلّ سياسة التقارب الأخيرة مع دمشق، أمّا إيران وروسيا، فما زالتا تتبنّيان خطاباً متشدّداً يحذّر من أيّ محاولة لـ "ابتزاز" النظام السوري عبر الورقة الاقتصادية.

من هنا، إن المستقبل القريب يحمل في طيّاته عدّة سيناريوهات محتملة، أوّلها أن تؤدي المفاوضات إلى اتفاق محدود يتضمّن رفعاً جزئياً للعقوبات مقابل تنازلات سورية في بعض الملفّات الأقلّ حسّاسية، أمّا السيناريو الثاني والأكثر ترجيحاً في نظر العديد من المحلّلين فهو استمرار الجمود في المفاوضات بسبب تصلّب المواقف وتباين الأولويات بين الأطراف المعنية، بينما يحذّر بعض الخبراء من سيناريو ثالث مظلم قد يشهد تصعيداً عسكرياً جديداً في حال فشل المسار التفاوضي.

ختاماً، تبقى المبادرة التي أطلقها الرئيس ترامب من الرياض محفوفة بالتحدّيات والتعقيدات، حيث تتداخل فيها الاعتبارات الانتخابية الأمريكية مع الحسابات الجيوسياسية الإقليمية، فبينما تريد واشنطن استخدام ورقة العقوبات الاقتصادية لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية، تتمسّك دمشق بورقة التحالفات الإقليمية كضمانة لبقائها، في خضمّ هذا كلّه، يبقى الشعب السوري هو الحلقة الأضعف في هذه المعادلة المعقّدة، حيث تستمرّ معاناته اليومية تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة والصراعات الإقليمية التي لا تبدو لها نهاية في الأفق القريب.