لطالما سعت القوى العظمى الى بسط نفوذها على مراكز صنع القرار الدولي باستخدام أدوات عدة، ودائما ما تنوعت وسائل ذلك الصراع المستعر عبر التاريخ ما بين استخدام القوة العسكرية للاستيلاء على مقدرات الشعوب ،أو تسخير "الترسانة الاقتصادية" كمحرك للمشهد المتلاطم على الدوام، ولقد كان الدولار أبرز آليات الهيمنة الامريكية أحادية القطب على العالم ، تعزيزا لمكانتها وحفاظاً على مصالحها الجيوسياسية ، ولفهم تلك "الدولرة" يجب إلقاء نظرة تاريخية على ارهاصات ومراحل نمو "الورقة الخضراء" كأقوى عملة في النظام النقدي العالمي.
من نافلة القول ان الدولار الأمريكي ظهر في العام 1792، وتم اعتماده كعملة رسمية للولايات المتحدة حيث كانت البداية ب 3 فئات مصنوعة من الذهب والفضة والنحاس ، وصولا إلى شكله الحالي في 1862، وكان الدولار مغطي باحتياطي من الذهب أي ان الافراد يستطيعون استبداله بالذهب في أي وقت.
كما هي المحطات الأهم في تاريخ الأمم، كانت الحرب العالمية الثانية نقطة فاصلة بالنسبة الولايات المتحدة حيث خرجت منها منتصرة ، لتبدأ حرب اقتصادية أكثر شراسة حتى أصبحت رأس النظام الاقتصادي العالمي ومرجعية سلة العملات حول العالم، وتحقيق ذلك فقدت عقدت اتفاقية bretton woods عام 1944م مع 44 دولة لترسيخ هيمنتها التاريخية في هذا الجانب، ومنذ ذلك الحين أصبح الدولار هو أساس تحديد قيمة العملات الأجنبية في الدول الـ 44 مما مهد الطريق لتشكيل نظام الصرف الأجنبي بمعناه المعاصر وصولا الي انشاء صندوق النقد الدولي.
"المعدن النفيس"، والتي تمتلك منها أمريكا حوالي 75% من الاحتياطي العالمي، كان "الورقة الرابحة" لها، لان عملتها هي الوحيدة التي يقابلها احتياطي من الذهب، مما حدا بالعديد من الدول الي التنافس للحصول على الدولار الأمريكي ليكون بديلا للذهب كاحتياطي لعملاتها المحلية من النقد الأجنبي، وكطبيعة الأنظمة السياسية لم تهتم الولايات المتحدة الا بمصالحها الوطنية فقط، فلقد عمدت الي اصدار ملايين الدولارات لتمويل حربها في فيتنام بلا غطاء من الذهب – في الخفاء- حتى لا تتأثر قيمة الدولار الذي أصبح احتياطي نقدي لغالبية الدول.
"الزعامة الدولارية" لم تدم طويلاً، ففي عام 1968 طالب الرئيس الفرنسي شارل ديجول بتحويل الدولارات الموجودة لدي بنك بلاده المركزي الي ما يقابلها من الذهب عملا باتفاقية bretton woods وما دفع ريتشارد نيكسون الي الغاء التزام الولايات المتحدة بتحويل الدولارات الي ذهب نتيجة عدم وجود احتياطي كافي من الذهب لملايين الدولارات حول العالم وعرف هذا البيان بصدمة نيكسون 1973، وأجبرت الدول علي تقبل هذه الصدمة وأصبح الدولار أضخم عملة نقدية احتياطية يتم الرجوع اليها في تحديد قيمة العملات الأخرى مما رسخ الهيمنة الاقتصادية الامريكية على العالم حتى الان.
وفي خضم محاولات التحرر من التبعية الاقتصادية وتشكل النظام العالمي الجديد ضمن حقبة "ما بعد أمريكا" ، تظهر بين الحين والآخر ارهاصات انهيار إمبراطورية الدولار الأمريكي كمتحكم في السياسة النقدية ، فالولايات المتحدة مدركة قرب أفول ذاك النجم في الوقت الحاضر لأسباب عدة منها اعتماد السياسة الخارجية علي "الدبلوماسية القسرية" في فرض قراراتها من خلال سلاح العقوبات الاقتصادية مما يمثل سبب مقنع لغالبية البنوك المركزية حول العالم لتنويع احتياطاتها النقدية بعيدا عن مسلك "الدولار هو الملك"، كما أكد هذا التوجه تصريحات الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب التي أشار فيها الي ان مستقبل الدولار اصبح علي المحك في ظل اتفاقيات دولية للتبادل التجاري بعملات بديلة في مقدمتها اليوان الصيني والذي يرغب بالنأي بنفسه عن أي عقوبات أمريكية محتملة.
تذبذب الراي العام العالمي حاليا في مدي الاعتماد علي الدولار كعامل أمان للناتج المحلي في ظل صعود متنامي للصين في حجم التبادل التجاري ، سيؤدي إلى تحول في السياسة الاقتصادية العالمية نحو امتلاك اصول مقومة باليوان تماشيا مع ما تفرضه الظروف الحالية وكنظره مستقبليه علي تحولات دولية قد يشهدها العالم باسره، مما يلقي على عاتق واشنطن مسؤوليات الاخذ في المبادرات التي تتقدم بها الصين وغيرها من الدول لبدء حديث جدي حول اصلاح النظام النقدي العالمي.
يبقى القول ان الانتقال الي عالم متعدد العملات لم ولن يكن سهلا ولن يتحقق بين عشية وضحاها، نظرا لطبيعة العلاقة التاريخية للدولار كمسيطر علي مسارات السياسات النقدية حول العالم، ومن مظاهر ذلك نجد ان هناك تغير في السياسية الخارجية الامريكية يعيد التوازن والقوة لاهم أسلحتها (الدولار) ، بالإضافة الي ارتباط مصالح الدول الدائنة بـالعملة الخضراء كابرز المدافعين علي استقراره .