حينما نتطرق إلى قصص القرآن الكريم نستذكر الحوادث الواقعة وأحوال الأمم الماضية والنبوات السابقة كما أخبرنا بها الله في كتابه العزيز، فقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي وذكر البلاد والديار وتتبع آثار كل قوم وحكى صورة ناطقة لما كان يدور في هذه العصور، والمغزى من ذلك قوة التأثير في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق، فهناك قصص عرضت بالكامل في سورة واحدة وأخرى عرض جزء منها في سورة والآخر في سورة أخرى.
 فقد بين الله لنا أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء. فهذه القصص ليست مفتراة بدليل وجود أمثالها بين الناس، ففيها الحكم والعبر ونستفيد منها الكثير.
وبعد ما ذكرناه، نترككم كي تعايشوا هذا الجو القصصي في حلقات رمضانية متتالية، سيتم نشرها تباعا لكي نستفيد من مغزاها والدروس المستفادة منها، وتكون خير معين لنا في فهم ديننا وإيصاله للناس بالصورة الصحيحة وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى إنه نعم المولى ونعم النصير.

- الله تعالى أشار إلى أنَّ سَفكَ الدِّماء سيكون على الأرض بسبب صِّراع السُّلطة
- الغرابُ عُرف بكونه طائراً اجتماعياً لاحَظَ عليه القدماءُ أنَّه يدفن موتاه
- حواء كانت تنجب ذكراً وأثنى في كل مرة لكن زواج  أبناء البطن الواحد كان محرماً 

القتل أول جريمة لبني آدم على الأرض، وقد كان سببُها السببَ ذاتَه الذي أخرج آدم من الجنة، وهو الحسد، فوقع من ابنيْ آدم ما حذر الله منه، وما توعد به إبليس في حربه، وسنتعرف من خلال تحليل تفاصيل هذه القصَّة إلى العدوِّ الأكبر للإنسان، والذي يفوق في خطورته عداوة الشيطان، ألا وهو النفسُ البشريَّة الأمَّارة بالسُّوء.
السَّرد القرآنيُّ
قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة: 27-32].
التصور التفسيري
تصوُّر لنا كتبُ التفسير أنَّ الصِّراعَ الذي دارَ بين ابنَي آدم (قابِيل وهابِيل) كان عاطفيّاً، ناشئاً عن عدم رضا الأخ الأكبر (قابِيل) بالزَّواجِ من شقيقةِ الأصغر (هابِيل)؛ لعَدم اقتناعه بجمال مظهرها الخارجيِّ، ولرغبته في الزَّواج من شقيقته الجميلةـ وذَكَر المفسرون أنَّ حوَّاء كانت تُنجب في كلِّ بطنٍ تَوأماً من ذَكَرٍ وأُنثى، وكان محرماً على أبناء البطن الواحد الزواج ببعضهما البعض..
ومن هنا نشأ أصلُ الاختلاف بين الأَخوَين، وأنَّهما قرَّرا أن يقرِّبا قرباناً؛ ليُظهر بقَبوله مَن منهما الذي يستحقُّ الزواجَ من الشقيقة الجميلة، فقام (قابِيل) - وكان صاحبَ زَرعٍ- بتَقريب حفنةٍ من طعامٍ رديءٍ، وقام (هابِيل) وكان راعي غنمٍ بتَقريب أفضل ما عندَه من الغَنَم، فنَزلت نارٌ من السماء فأكلت قربانَ (هابيل) وتركت قربان (قابيل)؛ فقَتَل (قابيل) أخاه (هابيل) حسداً وغيرة، ثمَّ إنَّ (قابيل) بقي يحمل جثَّةَ أخيه ولا يعرف ماذا يفعل بها مدَّة من الزمن، حتَّى بعث الله تعالى إليه غُرابَيْن أَخَوين فاقتتلا أمامَ نَظَره، ثمَّ قام الغرابُ القاتل بحفر حفرةٍ في الأرض دَفن فيها أخاه المقتول؛ فندم (قابيل) عندَ رؤيته لذلك على قَتله لأخيه.
واعتَمد المفسِّرون في سِياق هذه التفاصيل على الرِّوايات الإسرائيليَّة وما يماثلها؛ حيث انعدمَ وجودُ النصِّ النبويِّ الشَّريف المبيِّن لتفاصيل أحداث هذه القصَّة، وهو أمرٌ يدعو المطالعَ للتوقُّف عندَه ليدركَ ما فيه من رسالةٍ واضحةٍ بأنَّ النصَّ القرآنيَّ في هذه القصَّة غيرُ محتاجٍ لمزيد من البيان والتفصيل، وأنَّه كافٍ لتوضيح أبعادها عندَ مَن يعقل ويفهم لغةَ القرآن.
تحليل التفاصيل
يتجلى فهمُ السرد القرآنيِّ لتفاصيل هذه القصَّة من خلال تحليل مكوِّناتها الخمسة، ومعرفة النصوص الشرعيَّة الدقيقة الموضِّحة لأبعاد كلِّ مكوِّنٍ منها، وهي:
أولاً- مكانة القربان ودلالته. يوضِّح الله تعالى لنا مكانة القربان ودلالته بقوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183]، وكان بنو إسرائيلَ يُطالبون الأنبياءَ بذلك الدليل؛ لأنَّ الأنبياءَ الذين كانوا يُبعَثون إليهم كانوا يسوسونهم كملوكٍ لهم لا كأنبياء فحَسب؛ يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:
(كانت بنو إسرائيلَ تَسُوسُهم الأَنبياءُ، كلَّما هَلك نبيٌّ خَلَفه نبيٌّ)، وواضحٌ من استخدام صيغة الفعل المضارع في قوله تعالى: {ولم يُتَقبَّل من الآخَر} أنَّ القاتلَ حاول إشعالَ النار في قربانه أكثرَ من مرَّةٍ، وأنَّ النارَ كانت تنطفئُ، ويُرفَض قربانُه في كلِّ مرَّةٍ.
ثانياً- القتل أخطر جريمة. القتل هو الاعتداء على الناس بإزهاق أنفسهم بلا مبرر شرعي، وقد جرَّم القرآن فاعلها، وغلظ في النكير عليه، ولذلك أوجد الله القصاص للمحافظة على قداسة النفس من تطاول الإنسان عليه، فمن علم أنه لو قتل سيقتل، فإن ذلك سيردعه من التطلع لذلك.
ثالثاً- دوافع القتل الكبرى. ما يزيد هذه القضيَّة وضوحاً، هو أنَّ الله تعالى أشار إلى أنَّ القتلَ وسَفكَ الدِّماء سيكون على الأرض بسبب الصِّراع على السُّلطة والخلافة؛ حيث قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وهذه الآيةُ تدلُّنا على أنَّ هذه القصَّة وقعت بعدَ وفاة سيِّدنا آدم عليه السلام؛ إذ ارتبط القتلُ فيها مع صفة الخلافةِ، مِمَّا يدلُّ على أنَّ الصراعَ سيبدأ مع أوَّل مَن يتَّصف بصفة الخَلَف بعدَ آدم، وهو منطبقٌ على ابنَيه، والله أعلم.
رابعاً- تناقض شخصية القتيل مع شخصيَّة القاتل. بيَّن لنا رسولنا الكريم الصِّفات المُميِّزة لأهل الجنَّة، ووضَّح العيوب الكاشفة لأهل النار من أبناء الدُّنيا، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألَا أُخبركم بأهل الجنَّة: كلُّ ضَعيفٍ متضعَّفٍ، لو أَقسم على الله لأبرَّه. ألَا أُخبرُكم بأهل النار: كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُستَكبرٍ)، وفي روايةٍ أُخرى: (كلُّ جَعْظَريٍّ جَوَّاظٍ مُستَكبرٍ جَمَّاعٍ مَـنَّاعٍ) ..
وقد عرَّف صلَّى الله عليه وسلَّم معنى التكبُّر فقال: (الكِبرُ: بَطَرُ الحقِّ، وغَمطُ الناسِ) وفي روايةٍ: (سَفَهُ الحقِّ، وغَمْصُ الناسِ). أو: (غَمص) الناس معناه: انتقاصهم والازدراء بهم والتعاظُم عليهم واستصغارهم، وازدراءُ القاتل لأخيه المقتول واضحٌ في السياق القرآنيِّ للقصَّة؛ إذ أنَّه ما خاطبَ أخاه إلَّا بكلمةٍ واحدةٍ فقط: (لأقتلنَّك)؛ وهي دالَّة على بلوغه الغاية القصوى في التعجرف والتكبُّر واحتقار أخيه.
ولمَّا كانت نفسُ القاتل مركَّبة من مجموع هذه الصِّفات الذميمة؛ لذلك طوَّعت له قَتلَ أخيه والتخلُّصَ منه، وهذا يرشدنا إلى خطورة النفس البشريَّة الأمَّارة بالسُّوء.
خامساً- اختيار الفعل {طَوَّعت}. وهذا الفعل يرشدنا إلى روح التطرُّف الدِّينيِّ عندَ القاتل؛ لأنَّه فعل مشتقٌّ من (الطاعة)، ومعناه: أنَّ نفسَه قد صوَّرت له أنَّ قتلَه لأخيه من أعمال الطاعةِ.
سادساً- طبائع الغراب الخاصَّة. عُرف الغرابُ بكونه طائراً اجتماعيّاً لا يعيش بمفردِه، منظَّماً في حياته؛ فقد لاحَظَ عليه القدماءُ أنَّه يدفن موتاه، وظنُّوا أنَّ هذا ما علَّمه لابن آدم، ولا نعتقد ذلك؛ لأنَّ الله تعالى ذكرَ في سرد القصَّة غراباً واحداً فقط، ولأنَّه سبحانه قال: {يبحث في الأرض}، والبحث هو التفتيش بالنَّظر عن الشيء الخفيِّ لاستخراجه من مكمنه لا لإخفائِه؛ فهذا الفعل مناقضٌ تماماً لمعنى الدفن، كما أنَّ تعليمَ القاتل كيفية دَفن القتيل لا يردعه عن ارتكاب الجريمة مجدَّداً، ناهيكَ عن الندم عليها، بل يحرِّضه على ارتكاب المزيد؛ لأنَّ في ذلك إرشاداً له إلى كيفية التخلُّص من الآثار المادِّية لجريمته. فما الذي اكتشفه ابن آدم القاتل في سلوك ذلك الغراب؟
ما أثبتته الدراسات الميدانيَّة المعاصرة هو أنَّ الغرابَ يتفرَّد عن سواه من الطيور بكونه الطائرَ الاجتماعيَّ الوحيد الذي يحرص على رعاية الفِراخ اليتيمة والمُعاقة جسديّاً، بل وحتَّى الكسولة منها، بما فيها أنواع الطيور الأخرى، وأنَّه يوفِّر لها لقمةَ العيش عن طريق تشكيل لجانٍ مختصَّة لرعايتها، ومن بين أعضاء هذه اللِّجان غرابٌ يسمَّى: (المتسكِّع) تنحصر مهمَّته في التفتيش عن فضلات الطعام المنتشرة على الأرض..
فيلتقطها ليغذِّي بها الفراخَ الجائعة، وهذا الغراب هو الذي نعتقد جازمين بأنَّ القاتلَ قد راقبَه وتفاجأ بتصرُّفه وهو يراه يلتقط الطعام ويزقُّ به الفراخَ الضعيفة القريبة منه والغريبةَ عنه على حدٍّ سواءٍ، وهذا التصرُّف هو الذي جعله يندم على تهوُّره بقتل أخيه وعدم قيامه بواجبه من نصرة أخيه، ومعونته بالحقِّ على القيام بواجب الخلافة الصحيحة.
الدين اليهودي والمسيحي
قابيل وهابيل هما شخصيتان ذكرتا في العهد القديم، وهما أول ابنين لآدم وحواء. كان قابيل عاملاً بالأرض أما هابيل فكان راعياً للغنم، وفي يوم قررا أن يعبدا الله فقدما قرابين. يقول الكتاب: وحدث من بعد أيام، أن قابيل قدم من ثمار الأرض قرباناً للرب. وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانِها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قابيل وقربانه لم ينظر. فأغتاظ قابيل جداً، وسقط وجهه. ولم ينظر الرب إلى قربان قابيل لأنه كان مخالفاً لما كان يتطلبه وهو الذبيحة الدموية أما هابيل فقد فعل. يقول الكتاب: بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قابيل. فبه شُهِد له أنه بارٌ إذ شهِد الله لقرابينه. حيث قابيل ادعى إيمانه بالرب ولكنه لم يفعل. لم يقبل الرب قربان قابيل فأغتاظ قابيل جداً وسقط وجهه. فقام على أخيه هابيل في الحقل وقتله، فقال الرب قابيل أين هابيل أخوك؟ فقال لاأعلم؛ أحارس أنا لأخي. فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ من الأرض. فالآن، ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملْت الأرض لاتعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون في الأرض.
الإسلام
ذكرهما الله في القرآن دون ذكر اسميهما صراحة بل اكتفى بوصفهما ابني آدم فقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
القصة في القرآن تقول أن كلاًّ من قابيل وهابيل قدَ قدما قرابين إلى الله سبحانه، فتقبل الله قربان هابيل؛ لصدقه وإخلاصه، ولم يتقبل قربان قابيل؛ لسوء نيته، وعدم تقواه، فقال قابيل -على سبيل الحسد- لأخيه هابيل: {لأقتلنك}، بسبب قبول قربانك، ورفض قبول قرباني، فكان رد هابيل على أخيه: {إنما يتقبل الله من المتقين}، فكان ردُّ هابيل لأخيه قابيل ردًّا فيه نصح وإرشاد؛ حيث بيَّن له الوسيلة التي تجعل صدقته مقبولة عند الله.
ثم إن هابيل انتقل من حال وعظ أخيه بتطهير قلبه من الحسد، إلى تذكيره بما تقتضيه رابطة الأخوة من تسامح، وما تستدعيه لحمة النسب من بر، فقال لأخيه: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}، فأخبره أنه إن اعتدى عليه بالقتل ظلماً وحسداً، فإنه لن يقابله بالفعل نفسه؛ خوفاً من الله، وكراهية أن يراه سبحانه قاتلاً لأخيه.
ثم انتقل هابيل إلى أسلوب آخر في وعظ أخيه وإرشاده؛ إذ أخذ يحذره من سوء المصير إن هو أقبل على تنفيذ فعلته {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}. بيد أن قابيل لم يرعوِ لنصائح أخيه، وضرب بها عُرْض الحائط، ثم انساق مع هوى نفسه، وزينت له نفسه الإقدام على قتله، فارتكب جريمته ، فقتل أخاه.
على أن قابيل القاتل لم يكتف بفعل تلك الجريمة، بل ترك أخاه ملقى في العراء، معرضاً للهوام والوحوش، ولكن بعث الله غراباً يحفر في الأرض حفرة ليدفن تلك الجثة الهامدة التي لا حول لها ولا قوة من البشر، فلما رأى قابيل ذلك المشهد، وأخذ يلوم نفسه على ما أقدم عليه، وعاتب نفسه كيف يكون هذا الغراب أهدى منه سبيلاً ، فعض أصابع الندامة، وندم ندماً شديداً، فقال عندها قابيل: (يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي) ثم أخذ يفعل به ما فعل ذاك الغراب فواراه ودفنه تحت التراب.
فائدة: روى الجماعة سوى أبي داود وأحمدُ في مسنده عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل” أي ظلمًا. فعلم من ذلك أن قابيل ما تاب من قتله لهابيل.