- تراثنا العربي الإسلامي  شأنه شأن كل جهد بشري  يشتمل على الغث والسمين ويتضمن جوانب إيجابية وأخرى سلبية
- الواجب الإسلامي يقتضي أن نعمل على تنقية هذا التراث العظيم وغربلته وإزالة الغيوم التي تحجب عنا إشراق شمسه
- تراثنا  يشتمل على الكثير من الخرافات والأوهام والإسرائيليات والإسلام لا يتحمل وزر ذلك كله
- تنقية التراث يمكن أن يوكل أمرها إلى مؤسسة علمية إسلامية على أن يكون لديها خطة عمل تراعي أيضاً الأولويات الملحة فيما يتعلق بتحقيق كتب التراث ونشرها 

 
 
في هذا العدد ننشر آخر حلقات  كتاب «الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري» لوزير الاوقاف المصري الاسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق والذي نشرناه في شهر رمضان :
 
 
ترجمة إسلامية لمعاني القرآن الكريم :
إنه لأمر يدعو إلى الدهشة والغرابة أن يترك المسلمون كتابهم المقدس نهباً لكل من هب ودب لترجمته ولا يحركون ساكناً أمام عشرات الترجمات للقرآن في كل لغات العالم. وفي كل لغة من اللغات الأوروبية نجد العديد من الترجمات القديمة والحديثة . 
 
 
 
وفي الجانب الآخر يهتم النصارى بترجمة كتابهم إلى كل لغات البشر. وقد اطلعت على ورقة عمل مقدمة من ( وليم د. رايبيرن William D. Reryburn ) إلى مؤتمر كلورادو ـ الذي أشرنا إليه ـ عن ترجمات الكتاب المقدس إلى لغات العالم المختلفة، وعن الترجمات الموجهة على وجه الخصوص للمسلمين في شتى لغاتهم . 
ويتضح من هذه الورقة مدى الجهد الكبير الذي يبذل في سبيل توصيل تعاليم الكتاب المقدس إلى كل الناس عن طريق مئات الترجمات التي قامت بإنجازها الهيئات النصرانية التبشيرية. ولم نسمع عن ترجمات للكتاب المقدس قام بها أناس من غير النصارى .
أما نحن فقرآننا كلأ مباح لكل من يريد ترجمته وتحريفه ، وشغلنا عن ذلك بمناقشات أضعنا فيها الكثير من الوقت حول جواز أو عدم جواز ترجمة القرآن. وقد كان الشيخ محمد مصطفى المراغي من أشد المتحمسين لموضوع ترجمة معاني القرآن عندما كان شيخاً للأزهر . وتقدم بمذكرة إلى مجلس الوزراء المصري في عام 1936 يقترح فيها ترجمة رسمية يقوم بها الأزهر بمساعدة وزارة المعارف، وذلك حتى يمكن أن تقف هذه الترجمة الرسمية في وجه الترجمات العديدة المنتشرة في العالم شرقاً وغرباً ، والمليئة بالأخطاء . وقد وافق مجلس الوزراء على ذلك في 16 أبريل ( نيسان ) 1936م.
ولكن الشيخ الظواهري وقف على رأس المناهضين لهذا المشروع ورأى ( أن الطريق السليم لمناهضة هذه الترجمات غير الصحيحة هو مصادرة هذه الترجمات وطلب جمعها وإتلافها من جميع حكومات العالم .
 
وهذا مطلب غريب لا يمكن تحقيقه بأي حال من الأحوال. وهكذا وئدت الفكرة في مهدها، ولم نفعل شيئاً من أجل المسلمين في شتى أنحاء العالم من غير الناطقين بالعربية، والذين يتحدثون مئات اللغات المختلفة في كل قارات العالم . 
إن العرب لا يشكلون اكثر من نسبة 15% من تعداد المسلمين في العالم، فهل يترك باقي المسلمين من غير العرب تحت رحمة ترجمات فاسدة للقرآن قام بها أناس غرباء عن دينهم؟ 
 
لقد آن الأوان لإعداد ترجمات إسلامية مقبولة لمعاني القرآن الكريم باللغات الحية، نسد بها الطريق أمام عشرات الترجمات المنتشرة الآن بشتى اللغات والتي قام بإعدادها بعض المستشرقين والمنصرين وصدورها في غالب الأحيان بمقدمات مملوءة بالطعن على الإسلام . 
 
ومن واجبنا أيضاً أن نقوم باختيار مجموعة كافية ومناسبة من الأحاديث النبوية الصحيحة وترجمتها إلى اللغات الحية لتكون مع ترجمة معاني القرآن الكريم في متناول المسلمين غير الناطقين بالعربية، وفي متناول غير المسلمين الذين يريدون فهم الإسلام من منابعه الأصلية . 
 
 
 
تنقية التراث الإسلامي 
تراثنا العربي الإسلامي يعد أغنى تراث في العالم، وهو تراث نعتز به ولا يجوز لنا أن نفرط فيه. ونعني بالتراث كل إنتاج بشري للمسلمين في شتى مجالات الأدب أو اللغة أو الفكر أو الدين أو العلوم بصفة عامة أو الفنون المختلفة. وتنبع أهمية هذا التراث من أنه يمثل الإطار الذي يحدد للعرب والمسلمين هوية معينة وصبغة متميزة، ويمثل الخلفية الفكرية لتصوراتهم وأفهامهم لكل مجالات الحياة. ويعطي لهم الركيزة الأساسية للأيديولوجية الخاصة التي يتميزون بها بين الأمم. وكل ذلك مرتكز بطبيعة الحال على أسس إسلامية راسخة .
 
والاهتمام بهذا التراث لا يعني مجرد التغني بالأمجاد أو اجترار الذكريات وإنما يعني البحث عن الجذور الحقيقية للشخصية العربية الإسلامية واستعادة الأمة العربية الإسلامية للثقة بنفسها وأمجادها وقدرتها على البناء والتطور الحضاري، حتى تسير بخطى ثابتة على أرض صلبة مستندة على رصيد حضاري ضخم . 
 
وهكذا لا يعني الاهتمام بالتراث التقوقع والانعزال عن التطورات العلمية والحضارية في عالم اليوم. فالتراث نفسه يعطينا المثل الواضح . فالمسلمون عندما بنوا حضاراتهم لم ينعزلوا وإنما انتفعوا بكل ما كان قائماً في ذلك الزمان من علوم ومعارف على اختلاف أنواعها. فالتراث يجدد نفسه بصفة مستمرة عن طريق مواكبته لروح العصر والاستفادة إلى أقصى حد من كل الوسائل والأساليب الحديثة التي تفيد في تنميته وتطويره. وكل ذلك بما لا يتعارض مع مقوماته الأساسية . 
ولكن تراثنا العربي الإسلامي ـ شأنه شأن كل جهد بشري ـ يشتمل على الغث والسمين ويتضمن جوانب إيجابية وأخرى سلبية، الأمر الذي يعطي الفرصة لبعضهم في تغليب الجانب السلبي على الجانب الإيجابي في بعض الأحوال .  
والواجب الإسلامي يقتضينا أن نعمل على تنقية هذا التراث العظيم وغربلته وإزالة الغيوم التي تحجب عنا إشراق شمسه، حتى يكون غذاءً فكرياً صالحاً يمد المسلم بأسباب القوة التي تعينه على النهوض مرة أخرى بعزم جديد وتصميم أكيد .
وكلنا يعلم أن هذا التراث يشتمل على الكثير من الخرافات والأوهام والإسرائيليات. وعلى الرغم من أن الإسلام لا يتحمل وزر ذلك كله، فإن المستشرقين يستخدمون تراثنا بكل ما فيه، ويعمد الكثيرون منهم إلى البحث عن تلك الجوانب السلبية والتركيز عليها وتفصيل القول فيها، ظناً منهم أنهم بذلك قد عثروا على نقاط الضعف في الإسلام ذاته. ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى مثال واحد ـ من بين أمثلة عديدة لا تحصى ـ وهو قصة الغرانيق المذكورة في بعض كتب التراث، وهي قصة يعلم الله أن الإسلام برئ منها. ولكن المستشرقين قد ركزوا عليها وسلطوا عليها الأضواء من كل جانب واعتبروها نقطة ضعف في التوحيد الإسلامي الذي كان ـ في زعمهم ـ على استعداد، ولو للحظة واحدة، أن يتخلى عن تشدده مجاملة لمشركي مكة فإذا اتهمنا المستشرقين بالتجني وهم متجنون بالفعل ـ حق لهم أن يردوا الاتهام قائلين : نحن لم نخترع شيئاً من عندياتنا ، أليست القصة ورادة في بعض مصادركم المعتمدة ؟ 
 
وتنقية التراث يمكن أن يوكل أمرها إلى المؤسسة العلمية الإسلامية التي سبق أن أشرنا إليها ، على أن يكون لديها في هذا الصدد خطة عمل تراعي أيضاً الأولويات الملحة، فيما يتعلق بتحقيق كتب التراث ونشرها .
 
 
 
[7] الحضور الإسلامي في الغرب.. 
من الملاحظ أن الحضور الإسلامي في المؤسسات العلمية في الغرب ضعيف جداً إن لم يكن معدوماً، وليست هناك أهمية إسلامية كبيرة للكثيرين من أبناء العالم الإسلامي الذين يساعدون في التدريس في تلك المؤسسات نظراً لأنهم لا يستطيعون ـ إلا فيما ندر ـ أن يصرحوا بوجهات نظر تتعارض مع وجهات النظر الاستشراقية حول الإسلام . والغالبية منهم يجارون التيار السائد وإن لم يفعلوا فقدوا عملهم .. فهم مكبلون بقيود الوظيفة هناك . وعلى الرغم من كثرة عددهم مثلاً في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية فإنه ليس لهم نفوذ يذكر ( فإن القوة ضمن النظام ( في الجامعات والمؤسسات وما إليها ) هي حصراً تقريباً في أيدي غير الشرقيين، رغم أن نسبة الشرقيين إلى غير الشرقيين بين الأساتذة المقيمين لا تعطي الأفضلية لغير الشرقيين إلى هذه الدرجة الجارفة ).
 
ولسنا هنا نريد أن نقلل من شأنهم أو نغض من أقدارهم، ولكننا نعبر فقط عن الموقف الصعب والوضع الحرج الذي يتحركون في حدوده. 
 
ومن أجل ذلك نقترح سبيلاً آخر لتقوية الحضور الإسلامي في المؤسسات الأكاديمية في الغرب، وذلك بمحاولة اقتحام مجالات تدريس العلوم العربية والإسلامية في الغرب عن طريق الاتفاقيات الثقافية التي تعقد بين بلدان العالم الإسلامي ودول أوروبا وأمريكا، وذلك بإرسال أساتذة أكفاء من الأقطار الإسلامية إلى معاقل الاستشراق للتدريس فيها. وبذلك يمكن بالتدريج تصحيح التصورات الغربية عن الإسلام بالعمل العلمي الدؤوب وليس عن طريق الشعارات الجوفاء. وأعتقد أن هناك الآن بعض الجامعات في أوروبا وأمريكا لديها الاستعداد للاستجابة بذلك.
 
ومن ناحية أخرى يمكن إنشاء معاهد أو مراكز بحوث إسلامية في أوروبا وأمريكا على غرار المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، على أن يكون لهذه المراكز منشورات علمية مثل معهد بيروت المشار إليه . وتستطيع هذه المعاهد أن تزود الجهات العلمية في الغرب بالمعلومات الصحيحة وتسهم بما تنشره من بحوث علمية رصينة بلغات تلك البلاد، وما تقيمه من ندوات ولقاءات ومحاضرات ـ تسهم في تصحيح التصورات الخاطئة ـ عن الإسلام في أوروبا وأمريكا والتخفيف من غلواء العداوة للإسلام في الغرب بصفة عامة . 
 
 
الحوار مع المستشرقين المعتدلين .. 
من المفيد جداً أن يكون للمؤسسات العلمية الإسلامية صلات بالمستشرقين المعتدلين إلى إجراء حوار مستمر معهم وعقد لقاءات وندوات تجمع بينهم وبين العلماء المسلمين . 
 
 
وليس هناك شك في أن مثل هذا الحوار سيكون له أثره الإيجابي على كلا الجانبين. فمن ناحية سيكون دعماً لمواقف هؤلاء المستشرقين وتقوية لجانبهم وتشجيعاً لاتجاهاتهم بهدف أن تصبح هذه الاتجاهات المعتدلة في يوم من الأيام تياراً عاماً في الغرب يكون له تأثيره الفعال في تصحيح الصورة الخاطئة عن الإسلام في العالم الغربي . 
ومن ناحية أخرى سيكون من نتائج هذا الحوار ترشيد المثقفين المسلمين المتأثرين بأفكار استشراقية سلبية والتخفيف من حدة اندفاعهم وتقليدهم لهذه الأفكار وإعادتهم إلى المواقف الإسلامية الصحيحة . 
 
 
[9] دار نشر إسلامية عالمية.. 
لقد أصبحت الحاجة ملحة إلى إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تقوم بنشر المطبوعات الإسلامية بكافة اللغات، حتى لا تظل المطبوعات الإسلامية باللغات الأجنبية تحت رحمة الناشر في الغرب. وأقرب الأمثلة على ذلك أن المفكر الفرنسي المسلم ( جارودي ) يجد الآن صعوبة في نشر كتاب يفضح فيه ادعاءات الصهيونية بعنوان ( ملف إسرائيل بين أحلام وأكاذيب الصهيونية ). والمعروف أن دور النشر في فرنسا كانت تتلقف كل ما يكتبه جارودي لتنشره على نطاق واسع في أوروبا وأمريكا. ولكن إسلامه وتعاطفه مع قضية العرب والمسلمين قد غير الوضع . 
 
 
ويمكن أن تقوم هذه الدار المقترحة أيضاً بإصدار صحف ومجلات إسلامية بلغات مختلفة، وتكون هذه الصحف والمجلات وسيلة للربط بين المسلمين في كل مكان: تعمل على تجميعهم وتوحيد صفوفهم وتعريفهم بقضايا إسلامهم وإعلامية بأخبار بعضهم بعضا من مصادر صحية . وحبذا لو استطاع المسلمون إنشاء وكالة أنباء إسلامية عالمية تستطيع أن تثبت وجودها بصورة مشرفة، وتكون هي المصدر الذي يستقي منه الغرب معلوماته عن العالم الإسلامي وليس العكس، فنحن نستقي حالياً معلوماتنا عن العالم الإسلامي من وكالات الأنباء الغربية التي لا تتحرى الموضوعية في غالب الأحيان في عرضها لأخبار العالم الإسلامي. فوسائل الإعلام الغربية بصفة عامة تتخذ موقفاً سلبياً إزاء الإسلام وتساعد على تشويه صورته، انطلاقا من النظرة الغربية العامة للإسلام والتي تتركز أساساً على المواقف الاستشراقية التي ترسخت في الأذهان على مدى قرون عديدة. 
 
وبعــــد: 
فقد كانت تلك بعض المقترحات التي يمكن أن يكون لها أثرها في مواجهة الاتجاهات السلبية المعادية للإسلام في الحركة الاستشراقية. ولعل غيري يستطيع أن يضيف إليها وسائل أخرى فعَّالة . فلست أدّعي أنني أحطت بكل الجوانب ووضعت الحلول لسد كل الثغرات . فما قلته ليس هو نهاية المطاف وإنما هو جهد المقل الذي يعرف حدوده. والمهم في هذا الصدد هو توفر إرادة التنفيذ لدى الجهات الإسلامية المعنية، وتوفر الرغبة في العمل لدى علماء المسلمين. وقبل هذا كله لا بد من توفر الإدراك الواعي للمشكلة وما لها من أبعاد مختلفة . فمثل هذا الإدراك هو البداية الصحيحة نحو الاتجاه السليم لمواجهة مشكلاتنا الإسلامية الراهنة.
 
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يثير انتباه القارئ الكريم إلى التأمل والتفكير في أبعاد الحركة الاستشراقية وأهدافها ومراميها بغية الوصول إلى اتخاذ المواقف الصحيحة، فسيكون بذلك قد نجح في تحقيق الهدف من تأليفه . والله من وراء القصد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.