- الحرب الآن بين الإسلام والتيارات المناوئة له حرب أفكار ولهذه المعركة أدواتها التي يجب التسلح بها 
-استيعاب الإنتاج الاستشراقي حول الإسلام ودراسته دراسة عميقة هما الخطوة الأولى لنقده نقداً صحيحاً وإثبات ما يتضمنه من تهافت أو زيف 
-الشرقيون كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا ؟
- الاستشراق وجوده مشروط بعجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته .. والمستشرقون يعملون ونحن لا نعمل وقد آن الأوان لنعمل نحن أيضاً 
- مالك بن نبي: تحررنا من الاستعمار العسكري ولكننا لم نتحرر من القابلية للاستعمار 

 
في هذا العدد نستكمل نشر كتاب “ “الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري” لوزير الاوقاف المصري الاسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق :
الفصل الثالث: موقفنا من الاستشراق
موقفنا من الاستشراق
تمهيد ..
الصراع الفكري ومتطلباته ..
تمهيد .. 
بعد أن اتضحت لنا بعض الشيء ـ في الفصلين السابقين ـ أبعاد المواقف الاستشراقية بإيجابياتها وسلبياتها يبقى أمامنا السؤال الكبير. 
 
ماذا فعلنا نحن ؟ . 
ما موقفنا من الحركة الاستشراقية ؟ 
 
إنها حركة فكرية هائلة، وما تنتجه يخصنا ويخص عقيدتنا ولغتنا وتراثنا وتاريخناوذاتيتنا هل نكتفي بموقف المتفرج في المسرح تعجبه بعض المشاهد فتتهلل أساريره، ولا تعجبه بعض المشاهد الأخرى فيقطب جبينه ويمط شفتيه ؟ 
إن الأمر هنا يختلف تماماً، فالأمر ليس مجرد استحسان أو استهجان عابرين: نفرح حين يمن علينا بعضهم بكلمات المدح، ونفزع غاضبين حين يصب علينا بعضهم الآخر صواعق فكرية، فنستعيذ، بالله من شياطين الإنس ونعتبر الموضوع منتهياً ثم نستأنف سيرنا العادي الرتيب . لا، إن الأمر أخطر من ذلك بكثير، لأنه يتعلق بأعمق أعماقنا عقدياً وفكرياً وحضارياً. وليس هناك أمامنا من سبيل إلا المواجهة وقبول التحدي وإثبات الذات، وإلا فلسنا جديرين بالحياة.. 
 
لقد أضعنا الكثير من عمر الزمن في تفاهات الأمور، وغيرنا يصارعنا في عظائم الأمور، ونحن لاهون، غافلون، غير مكترثين .. يزلزل الآخرون في جذورنا ونحن لا نشعر ولا نعي، وإن شعرنا فهو شعور الكسول المتباطئ الذي يجد المتعة في التمطي والتثاؤب أكثر مما يجدها في الحركة والعمل. 
 
إن المستشرقين يعملون ونحن لا نعمل. وهذا هو الفارق بيننا وبينهم بصرف النظر عن طبيعة العمل الذي يقومون به. وقد آن الأوان لنعمل نحن أيضاً .. لنعمل حتى الموت لأنها مسألة مصير . 
وفي الصفحات التالية نستعرض معاً موقفنا وما يطلبه العمل الإسلامي منا في هذا المجال، ونضع أمام المسلمين الغيورين بعض المقترحات التي نعتقد أنها يمكن أن تعوض بعض ما فات من وقت ضائع وكرامة مهانة وذاتية منهارة .
الصراع الفكري ومتطلباته : [1] موسوعة الرد على المستشرقين ..  [2] مؤسسة إسلامية علمية عالمية : 
[3] دائرة معارف إسلامية جديدة ..  [4] جهاز عالمي للدعوة الإسلامية ..  [5] ترجمة إسلامية لمعاني القرآن الكريم :  [6] تنقية التراث الإسلامي ..  [7] الحضور الإسلامي في الغرب..  [8] الحوار مع المستشرقين المعتدلين ..  [9] دار نشر إسلامية عالمية.. 
 
لقد كانت التيارات الفكرية الأجنبية القديمة ـ التي كانت تمثل تحدياً للإسلام والفكر الإسلامي الأصيل في عصور الإسلام الزاهرة ـ كانت حافزاً للمسلمين في تلك الأيام الخوالي للوقوف أمامها بقوة وصلابة. وقد كانت المواجهة على مستوى التحدي بل تفوقه. فقد هضم الفكر الإسلامي تلك التيارات هضماً دقيقاً واستوعبها استيعاباً تاماً ثم كانت له معها وقفته الصلبة وبالأسلحة الفكرية نفسها. فالمواجهة إذن كانت مواجهة فكرية وكأن التاريخ الآن يُعاد نفسه، فالحرب الآن بين الإسلام والتيارات المناوئة له حرب أفكار، والمعركة معركة فكرية، ولهذه المعركة أدواتها التي يجب التسلح بها، فالخسران في هذه المعركة اشد وطأة وأقوى تأثيراً وأعظم فتكاً من خسارة اية معركة حربية أياً كان حجمها. 
 
لننظر مثلاً أنموذجاً رائداً في تاريخ الفكر الإسلامي .. إنه حجة الإسلام(الغزالي) الذي خاض غمار معارك فكرية عديدة وخرج منها جميعاً منتصراً، فماذا يفعل ؟ يقول ( الإمام الغزالي) في كتابه ( المنقذ من الضلال ) : 
 
(.. إنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم من أهل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم .. وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً ) .
وقياساً على ما يقوله الإمام الغزالي نجد أن استيعاب الإنتاج الاستشراقي حول الإسلام ودراسته دراسة عميقة هو الخطوة الأولى لنقده نقداً صحيحاً وإثبات ما يتضمنه من تهافت أو زيف ، الأمر الذي يجعل المستشرقين المنحرفين عن الصواب يفكرون ألف مرة قبل أن يكتبوا تحسباً لما قد يواجههم من نقد علمي يعريهم ويثبت زيف ادعاءاتهم . 
ويؤكد هذه الحقيقة المستشرق الفرنسي ( مكسيم رودنسون ) حين يشير إلى أن النقد الأوروبي ربما يكون غير عادل في نقاط معينة، ولكن القيام بتفنيد هذا النقد يقتضي بدوره دراسته أولاً، إذ لا يمكن نقضه إلا على الأساس نفسه الذي قام عليه. 
 
ويجب أن يرتبط نقدنا لإنتاج المستشرقين بنقد ذاتي حقيقي بصفة مستمرة، يجب أن نواجه أنفسنا مواجهة حقيقية بعيوبنا وقصورنا وتقصيرنا، وأن نكون على وعي حقيقي بالمشكلات التي تواجهنا في هذا العالم المعاصر. 
وقد يتمثل الجانب الإيجابي للاستشراق في صورة الهجوم علينا وعلى أمجادنا وليس في صورة المدح، وإن كان هذا يبدو أمراً غريباً، وهو غريب حقاً . ولكن إذا عرف السبب بطل العجب. فكلنا يعلم أن هناك عدداً لا بأس به من المستشرقين المنصفين قد مدحوا حضارتنا في مؤلفاتهم وأثنوا على علمائنا ومجدوا تراثنا. وآخرهم المستشرقة الألمانية المعاصرة ( زيجريد هونكه ) في كتابها ( شمس الله تسطع على الغرب) ونحن نقدر لهؤلاء العلماء هذه الجهود العلمية العادلة، ونشكر لهم باسم العلم إخلاصهم للحقيقة ووقوفهم في صف النزاهة العلمية والتزامهم بالموضوعية والبعد عن الأهواء والأغراض. 
 
ولكن هناك ملاحظة في هذا المقام تخصنا نحن المسلمين. وتتلخص هذه الملاحظة في أن جانب المدح والثناء قد يكون له تأثير تخديري علينا، فيجعلنا نغمض عيوننا مستسلمين لتلك الأحلام السعيدة التي تذكرنا بالعز الذي كان، ونركن إلى ذلك ونعيش على صيت آبائنا وأجدادنا، ونظن أننا عظماء لأن أجدادنا كانوا عظماء، ورحم الله جمال الدين الأفغاني.. فقد زاره شكيب أرسلان ذات مرة وحكى له ما يروى من أن العرب عبروا المحيط الأطلنطي قديماً واكتشفوا أمريكا قبل الأوروبيين. فرد عليه جمال الدين الأفغاني قائلاً : (إن المسلمين أصبحوا كلما قال لهم الإنسان : كونوا بني آدم، أجابوه : إن آباءنا كانوا كذا وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضعة. إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا ؟ نعم قد كان آباؤكم رجالاً . ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلا أن تفعلوا فعلهم ) . ومن هنا نقول: إن الجانب الهجومي التفنيدي الاستفزازي في إنتاج المستشرقين قد يكون بالنسبة لنا خيراً من جانب المدح تأكيداً للمثل المعروف ( رب ضارة نافعة). فقد يكون هذا الاستفزاز حافظاً لنا على الخروج من حالة الركود الفكري التي وصلنا إليها فننهض بعد طول رقاد وننطلق من جديد نبني أفكارنا ونعيد ترتيب ثقافتنا، وبذلك نقبل التحدي ونستجيب له بانطلاقة إسلامية حضارية جديدة. ولعل هذا ينطبق عليه تفسير ( توينيي ) للحضارة بأنها استجابة للتحدي بمعنى رد معين يواجه به شعب من الشعوب تحدياً معيناً . 
 
وهذا الرد ليس مجرد استنفاد الطاقات في رد الهجوم وترقب الطعنات للرد عليها، وإنما هو الرد الفعال الذي ينتقل إلى الموقف الأقوى. فلا يجوز أن نقف دائماً موقف المعتدى عليه، فالمعتدى عليه غالباً ما يكون ضعيفاً . ولهذا لا بد من أن نغير وضعنا وذلك لن يكون إلا بتغيير أفكارنا، فنحن لسنا متخلفين لقلة ما لدينا من إمكانات مادية ولكن تخلفنا لقلة أفكارنا وتبدد جهودنا. ولن تتغير أحوالنا إلا بتغير ما في نفوسنا طبقاً للمبدأ القرآني القائل : (.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. ) ( الرعد : 11) . 
 
ولا بد لنا من أن نعترف بأن الاستشراق يستمد قوته من ضعفنا ، ووجوده نفسه مشروط بعجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته. فالاستشراق في حد ذاته كان دليل وصاية فكرية . ويوم أن يعي العالم الإسلامي ذاته وينهض من عجزه ويلقي من على كاهله أثقال التخلف الفكري والحضاري ـ يومها سيجد الاستشراق نفسه في أزمة، وخاصة الاستشراق المشتغل بالإسلام، ويومها لن يجد الجمهور الذي يخاطبه لا في أوروبا ولا في العالم الإسلامي. 
ولا يجوز لنا أن ننتظر من غيرنا ـ أياً كان هذا ـ أن يساعدنا على النهوض من كبوتنا، فقد تعلمنا من تراث الأجداد أنه : ( ما حك جلدك مثل ظفرك ـ فتول أنت جميع أمرك ) . 
 
وإذا كان علينا أن نضع عن أنفسنا أغلال الوصاية الفكرية، فإن علينا من ناحية أخرى أن نتحرر من عقدة التخلف التي تسيطر علينا في جميع مناحي حياتنا، والتي تسد علينا منافذ الأمل في الخروج من أزمتنا. فقد تحررنا من الاستعمار العسكري، ولكننا لم نتحرر من القابلية للاستعمار ـ كما يقول مالك بن نبي رحمه الله ـ ولهذا فإن نظرتنا لكل ما يأتي من الغرب هي نظرة التقدير والإكبار حتى وإن كان هذا الذي يرد إلينا متمثلاً في أزياء غريبة عن أذواقنا وتقاليدنا ، أو شرائط تحمل ألحاناً صاخبة وأصواتاً مزعجة تصرخ بعنف يحطم الأعصاب، ونعدها فناً نتلقفه ونحاكيه لأنه قادم من الغرب المتقدم، غافلين عن الأسباب التي أفرزت في الغرب مثل هذه الظاهرة، وهي أسباب غريبة عنا بكل تأكيد . 
 
ويبدو أن ( عقدة الخواجة ) والتقدير الفائق لقدرات الأجنبي أمر ضارب بأطنابه في تاريخنا، فقد حكى الجاحظ في كتاب البخلاء الحكاية التالية عن طبيب عربي مسلم هو ( أسد بن جاني ) .. يقول الجاحظ : 
 
 
( وكان طبيباً فأكسد مرة، فقال قائل: السنة وبيئة، والأمراض فاشية ، وأنت عالم ولك صبر وخدمة، ولك بيان ومعرفة، فمن أين تؤتى في هذا الكساد ؟ 
 
قال: أما واحدة، فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب، لا بل قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطب، واسمي أسد ، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً، ومراسل ، ويوحنا، وبيرا، وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون: أبو عيسى، وأبو زكريا ، وأبو إبراهيم ، وعلي رداء قطن أبيض وكان ينبغي أن يكون علي رداء حرير أسود، ولفظي عربي وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جند يسابور ) .
وقد سمعت حكاية غربية منذ بضع سنوات مؤداها أن إحدى الدول العربية كانت قد تعاقدت مع أحد الأساتذة الأمريكيين للتدريس في جامعاتها. وقد كان لدى هذا البلد العربي حينذاك جدول غريب للمرتبات لأعضاء هيئة التدريس في الجامعة، في قمته الأوروبيون والأمريكيون وفي أوسطه الآسيويون من الهند وباكستان وفي أسفله العرب. وعندما حضر الأستاذ الأمريكي تبين أنه يتحدث العربية بطلاقة وأنه أصلاً عربي تجنس بالجنسية الأمريكية ، وعندئذ أصر هذا البلد العربي على وضع هذا الأستاذ ـ لأنه أصلاً عربي ـ في أسفل جدول المرتبات مع الأساتذة العرب.. ولكن الأستاذ رفض ذلك ولجأ إلى السفارة الأمريكية لتحميه من الظلم العربي، واستطاعت السفارة أن ترغم هذا البلد العربي على دفع التعويض الذي ينص عليه العقد لهذا الأستاذ الذي عاد إلى بلاده الجديدة التي تقدر كفاءته . 
كيف نستطيع أن ننتصر فــي قضية الصراع الحضاري بمثل هذه العقليات المتخلفة؟ 
لابد من تغيير جذري في أسلوب حياتنا، ولا بد من إعادة النظر في ثقافتنا وفي تفكيرنا .
إن قضية التقدم ـ المادي والروحي ـ قضية لا خلاف عليها ، واللحاق بركب التطور العلمي والتقني أمر لا جدال فيه. ولكن السؤال الجوهري هو : 
هل نحن حريصون حقاً على الحفاظ على هويتنا وعقائدنا وتراثنا واستقلالية شخصيتنا الإسلامية أم لا ؟ .
إذا كانت الإجابة بالإيجاب فنحن إذن أصحاب قضية يجب أن نعمل من أجلها بكل إمكاناتنا وطاقاتنا .. وهي قضية مصيرية من أجل إثبات الذات.. قضية صراع حضاري مرير . 
والاستشراق طرف في هذه القضية، لأن كثيراً من الدراسات الاستشراقية في مجال الإسلاميات تهدف بطريق مباشر أو غير مباشر إلى طمس معالم هويتنا ، والتشكيك في عقائدنا وتراثنا ، والنيل من استقلالية شخصيتنا العربية الإسلامية. والتصدي لذلك من جانبنا له أساليب مختلفة ترتكز كلها على شرط جوهري لا بد من توفره قبل أن نخطو خطوة واحدة في هذا السبيل، ويتمثل هذا الشرط في الثقة بالنفس والإيمان بالهدف . 
وسنحاول فيما يلي عرض بعض الأساليب التي يمكن أن تساعدنا على الوصول إلى أهدافنا المرجوة .