- لم يكن في يوم من الأيام خافياً على علماء المسلمين في مختلف العصور أن هناك الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا أصل لها
- الأمر الذي لا شك فيه أن علماء المسلمين الذين اهتموا بجمع الحديث النبوي لم يفرطوا إطلاقاً في ضرورة التدقيق الذي لا حدّ له في رواية الحقائق 
- علماء الحديث لهم باع طويل في نقد الرواة وبيان حالهم من صدق أو كذب .. والبخاري لم يأخذ في صحيحه بعد حذف المكرر إلا نحو أربعة آلاف حديث فقط من مجموع نصف مليون حديث 
- اختلاف المذاهب وتعددها بعد القرن الأول اختلاف في الاجتهادات في الفروع لا في الأصول 
- المستشرقون دائرة عملهم أوسع من التشكيك في القرآن والسنة فهم حريصون على تجريد المسلمين والعقلية الإسلامية والفكر الإسلامي بصفة عامة من كل القيم الإنسانية والحضارية والابتكارات العلمية

 
نواصل في هذه الحلقة نشر موقف المستشرقين من السنة والرد عليهم من واقع ما جاء في كتاب «الإستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري» لمؤلفه وزير الاوقاف المصري الأسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق.
يقول الدكتور زقزوق :
وبالأحرى كان ( جولد تسيهر ) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والإجمتاعي في القرن الأول والثاني . فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام . ويقدم ( جولد تسيهر ) مادة هائلة من الشواهد لمسار التطور الذي قطعه الإسلام في تلك العصور التي فيها تشكيلة من بين القوى المتناقضة، والتباينات الهائلة حتى أصبح في صورته النسقية .. ويصور جولد تسيهر ) التطور التدريجي للحديث، ويبرهن بأمثلة كثيرة وقاطعة كيف كان الحديث انعكاساً لروح العصر، وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة، وكيف راحت كل الأحزاب والاتجاهات في الإسلام تبحث لنفسها من خلال ذلك عن إثبات لشرعيتها بالاستناد إلى مؤسس الإسلام، وأجرت على لســانه الأقوال التي تعبر عن شعاراتها ) . وهكذا تم اختراع كم هائل من الأحاديث في العصر الأموي عندما اشتدت الخصومة بين الأمويين والعلماء الصالحين، ففي سبيل محاربة الطغيان والخروج عن الدين راح العلماء يخترعون الأحاديث التي تسعفهم في هذا الصدد، وفي الوقت نفسه راحت الحكومة الأموية تعمل في الاتجاه المضاد ، وتضع أو تدعو إلى وضع أحاديث تسند وجهات نظرها. وقد استطاعت أن تجند بعض العلماء الذين ساعدوها في هذا المجال.. ولكن الأمر لم يقف عند وضع أحاديث تخدم أغراضاً سياسية، بل تعدّاه إلى النواحي الدينية في الأمور التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة . وقد استمر هذا الحال في وضع الأحاديث في القرن الثاني أيضاً. 
هذا هو ملخص المزاعم التي روجها ( جولد تسيهر) ليهدم بها الأصل الثاني للإسلام وهو السنة.
 ولسنا هنا في معرض الرد التفصيلي على هذه المزاعم، فقد تكفل بعض أفاضل العلماء بذلك . ومن أهم الكتب القيمة في هذا المجال كتاب (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) للدكتور السباعي. فمن أراد التفصيل فليرجع إليه . 
ولكننا هنا نود أن نشير إلى أننا لا ننكر أن هناك الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا أصل لها، وأن ذلك لم يكن في يوم من الأيام خافياً على علماء المسلمين في مختلف العصور. ولكن الأمر الذي لا شك فيه أيضاً أن علماء المسلمين الذين اهتموا بجمع الحديث النبوي لم يفرطوا إطلاقاً في ضرورة التدقيق الذي لا حدّ له في رواية الحقائق. فقد وضع القرآن أمامهم أهم قاعدة من قواعد النقد التاريخي في قوله تعالى : 
(يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا ..) ( الحجرات:6) . 
وتتمثل هذه القاعدة في أن أخلاق الراوي تعد عاملاً هاماً في الحكم على روايته . وقد أفاد المسلمون إفادة عظيمة من هذه القاعدة وطبقوها على رواة الأحاديث النبوية. وقد كان تطبيق هذا المنهج النقدي على رواة الأحاديث هو الذي تطورت عنه بالتدريج قواعد النقد التاريخي. 
ولعلماء الحديث باع طويل في نقد الرواة وبيان حالهم من صدق أو كذب. فقد وصلوا في هذا الباب إلى أبعد مدى، وأبلوا فيه بلاءً حسناً، وتتبعوا الرواة ودرسوا حياتهم وتاريخهم وسيرتهم وما خفي من أمرهم وما ظهر ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا منعهم عن تجريح الرواة والتشهير بهم ورع ولا حرج. قيل ليحيى بن سعيد القطان : 
أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة ؟ فقال : 
لأن يكون خصمي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لم لم تذب الكذب عن حديثي. 
ويروي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قوله : 
(.. لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ) . 
ويقول ابن عبّاس أيضاً : 
إنا كنّا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ) .ثم أخذ التابعون في المطالبة بالإسناد حين فشا الكذب. يقول أبو العالية: 
كنّا نسمع الحديث من الصحابة فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم ) . 
ويقول ابن المبارك : ( بيننا وبين القوم القوائم) يعني الإسناد .
وقد وضع رجال الحديث القواعد الدقيقة التي ساروا عليها فيمن يؤخذ منه ومن لا يؤخذ، ومن يكتب عنه ومن لا يكتب. ويعلم ( جولد تسيهر ) وغيره من المستشرقين ذلك حق العلم، ويعلمون أيضاً أن ما بذله المسلمون في توثيق الحديث لم يبذل أحد من أتباع النصرانية واليهودية عشر معشاره في سبيل توثيق العهدين القديم والجديد، ويعلمون أيضاً أن إماماً من أئمة الحديث مثل البخاري لم يأخذ في صحيحه بعد حذف المكرر إلا حوالي أربعة آلاف حديث فقط من مجموع حوالي نصف مليون حديث قام بجمعها وغربلتها حتى انتقى منها هذه الآلاف القليلة نتيجة للمناهج العلمية الدقيقة التي وضعها المحدثون. ولم يكن المسلمون في وقت من الأوقات في حاجة إلى من يعلمهم ذلك من أمثال ( جولد تسيهر) ومن سار على نهجه . 
أما دعوى أن الحديث أو القسم الأكبر منه كان نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين الأولين، وما ذكره ( جولد تسيهر) من حديث عن طفولة الإسلام ونضوجه .. إلخ فإن الواقع والتاريخ يكذب هذه المزاعم. 
فقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن اكتمل الدين تماماً بنص القرآن الكريم حيث يقول : 
(اليوم أكملت لكــم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(المائدة: 3). 
وهذه الآية الكريمة تتضمن أيضاً إكمال السنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ ومبين لما في الكتاب كما سبق أن أشرنا، فالحديث عن مرحلة نضوج للإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا أساس له، لأن النضوج كان قد تم بالفعل قبل وفاته. أما إذا كان المراد بالنضوج هو تطور الفكر الإسلامي أو الفقه الإسلامي فهذا أمر آخر مع الأخذ في الاعتبار أن تطور الفقه الإسلامي لم يخرج ـ في أثناء بحثه عن حلول لما جدّ في المجتمع الإسلامي من مشكلات لم يكن لها نظير من قبل ـ عن الخطوط العامة التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية . 
أما أن الحديث كان انعكاساً للتطورات التي شهدها المجتمع الإسلامي في القرنين الأولين فيكذبه الحديث الشريف الذي سبق أن أوردناه : 
( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ) . 
قد كان من نتيجة ذلك جمع المسلمين على كلمة سواء في العقائد والعبادات والأخلاق وأحكام المعاملات في كل بقاع الأرض. فكيف يمكن حدوث ذلك إذا لم يكن الدين قد اكتمل، والقواعد قد ترسخت، والأخلاق قد تمكنت من النفوس، والعبادات قد استقرت أوضاعها. إن القول بأن الحديث أو القسم الأكبر منه كان نتيجة للتطور الذي حدث في المجتمع الإسلامي في القرن الأول والثاني يترتب عليه ألا تتحد عبادة المسلم في شمال أفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، نظراً للاختلاف البعيد في البيئة في كل منهما. فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب وبينهما هذا البعد وهذا الاختلاف ؟!. 
أما اختلاف المذاهب وتعددها بعد القرن الأول فقد كان نتيجة لاختلاف أفهام المسلمين في فهم الكتاب والسنة. وهو اختلاف في الاجتهادات في الفروع لا في الأصول، وقد أباح الإسلام مثل هذا الاختلاف في الفهم الناتج عن اجتهاد صادق. فإذا كان اجتهاداً خاطئاً فلصاحبه مع ذلك أجر واحد ، وإن كان اجتهاداً صائباً فلصاحبه أجران . ومن هنا نجد المرونة التي تتلاءم مع كل عصر وكل مكان . 
وهكذا لم يصل المستشرقون إلى ما يريدون من زعزعة اعتقادات المسلمين وخلخلة تمسكهم بإيمانهم وسنة نبيهم . وقد ردد بعض من المسلمين بعض الأفكار الاستشراقية ، ولكنها لم تجد أيضاً آذاناً صاغية من المسلمين .
 الأمثلة التي ذكرناها من آراء ومواقف المستشرقين من القرآن الكريم والسنة النبوية تكفي شاهداً ودليلاً على محاولاتهم المستميتة في سبيل هدم هذين الأصلين الكبيرين اللذين يقوم عليهما الإسلام، فالاعتقاد بهما إذا تطرق إليه التخلخل فإن ذلك سيؤدي بدوره إلى تخلخل الاعتقاد في الإسلام من أساسه. ولكن المستشرقين لم يقفوا عند هذا الحد، فدائرة عملهم أوسع من التشكيك في القرآن والسنة، فهم حريصون على تجريد المسلمين والعقلية الإسلامية والفكر الإسلامي بصفة عامة من كل القيم الإنسانية والحضارية والابتكارات العلمية. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نعرض في هذا الكتاب الموجز لكل المزاعم الاستشراقية في هذا الصدد، ولكننا سنكتفي بأن نشير باختصار شديد إلى أنموذجين يوضحان محاولات المستشرقين في التشكيك في أصالة كل من الشريعة الإسلامية والفلسفة الإسلامية. 
الشريعة والقانون الروماني
أما ما يتعلق بالشريعة الإسلامية فإن معظم المستشرقين يميلون إلى القول بتأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني، على اختلاف فيما بينهم في درجات هذا التأثر. فمنهم فريق من أمثال ( جولد تسيهر) و( فون كريحر) و( شيلدون آموس ) يذهبون إلى القول بأن الشريعة الإسلامية مستمدة من القانون الروماني، فهذا القانون هو المصدر الذي أقام فقهاء المسلمين على أساس من قواعده الكيان القانوني للشريعة الإسلامية. وفي ذلك يقول (شيلدون آموس ) بصريح العبارة : 
( إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلاً وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية). ويقول أيضاً : 
( إن القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي ) .
ويستدل هؤلاء على دعواهم بأدلة مختلفة أهمها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على معرفة واسعة بالقانون الروماني ، كما أن فقهاء المسلمين قد تعرفوا على آراء فقهاء مدارس القانون الروماني وأحكام المحاكم الرومانية في البلاد التي كانت لا تزال فيها هذه المدارس والمحاكم قائمة بعد الفتح الإسلامي. وهناك بالإضافة إلى ذلك تشابه في النظم القانونية والأحكام والقواعد الموجودة في الشريعة والقانون الروماني، الأمر الذي يعني أن الشريعة الإسلامية اقتبست هذه النظم والأحكام من القانون الروماني باعتباره سابقاً عليها .