- من المستشرقين فريق تعرض للإسلام باسم البحث العلمي ولكنهم انحرفوا عن جادة الصواب فراحوا يتلمسون نقاط ضعف في الإسلام ويشككون في صحة الرسالة الإسلامية
- منهم من أنصف الإسلام والمسلمين وأدى الأمر ببعضهم إلى اعتناق الإسلام
- البحث العلمي النزيه لا صلة له إطلاقاً بالرغبة في الطعن والتجريح والبحث عن نقاط الضعف 
- د.زقزوق: لا نطلب من كل مستشرق أن يغير معتقده ويعتقد ما نعتقده عندما يكتب عن الإسلام ولكن هناك أوليات بديهية يتطلبها المنهج العلمي السليم
- ألوان التحامل القديم على الإسلام خفت حدتها إلى درجة كبيرة منذ مطلع القرن الماضي ولكنها لا تزال تعيش قوية

 نواصل في هذا العدد نشر كتاب “ “الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري” لوزير الاوقاف المصري الاسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق :
فئات المستشرقين:
ومن خلال هذا العرض السريع لأهداف المستشرقين المختلفة التي كانت تتداخل مع بعضها في أحيان كثيرة يتضح لنا أن المستشرقين فئات مختلفة تتراوح بين التعصب والإنصاف. فإذا تجاوزنا من لهم ميول تبشيرية خفية أو سافرة نجد أن المستشرقين العلمانيين ينقسمون إلى فئات مختلفة : 
(أ‌) فريق من طلاب الأساطير والغرائب، من هؤلاء الذين افتروا على الإسلام واخترع خيالهم المريض حوله الأقاصيص الكاذبة. ولم يكن لهذا الفريق في سوق العلم نصيب. وقد ظهر هذا الفريق في بداية نشأة الاستشراق. واختفى بالتدريج . 
(ب‌) فريق من المرتزقة الذين جندوا دراساتهم وبحوثهم في خدمة المصالح الغربية الاقتصادية والسياسية والاستعمارية . وقد أشرنا إليهم عند حديثنا عن الاستشراق والاستعمار . 
(ج‌) وفريق من المتغطرسين الذين أخذتهم العزة بالإثم وأعمتهم الضلالة عن النزاهة العلمية، فراحت أقلامهم تقطر حقداً وعداوة وطعناً في الإسلام من أمثال: ( بدويل) و( بريدو) و( سيل) من القرن الثامن عشر. وقد كان لكتابات بعضهم مثل ( سيل) أثر كبير في الغرب لمدة طويلة . ويتساوى مع هؤلاء في الحقد والعداوة للإسلام مجموعة من الملحدين الذين ينالون من الإسلام نيلهم من النصرانية .
 
(د‌) فريق تعرض للإسلام باسم البحث العلمي ولكنهم انحرفوا عن جادة الصواب فراحوا يتلمسون نقاط ضعف في الإسلام، ويشككون في صحة الرسالة الإسلامية، وفي التوحيد الإسلامي، وفي القرآن الكريم من حيث مصدره أو نصه، وفي الحديث من حيث صحته، وفي قيمة الفقه الإسلامي الذاتية، وفي قدرة اللغة العربية على التطور ..ألخ. 
(هـ) وهناك فريق من المستشرقين التزم في دراسته للإسلام بالموضوعية والنزاهة العلمية وأنصف الإسلام والمسلمين. وقد أدى الأمر ببعضهم إلى اعتناق الإسلام. 
(و‌) وهناك فريق من المستشرقين توفر على دراسة اللغة العربية وفقه اللغة والأدب العربي أو اشتغل بالمعاجم وما شابه ذلك، ولهؤلاء بحوث قيمة مفيدة . 
 
ويهمنا عند عرض آراء المستشرقين حول الإسلام أن نناقش تلك الآراء الاستشراقية الأساسية التي ترسخت في الأذهان، وأصبح لها حجية أو شبه حجية. وخاصة إذا كانت هذه الآراء صادرة باسم العلم والمنهج العلمي واستخدام أساليب النقد والتحليل في البحث. فقد ينخدع بعضهم بتلك الشعارات العلمية . ولكن البحث والتنقيب في هذه الآراء يظهر لهم أنهم كانوا يجرون وراء سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاؤوه لم يجدوه شيئاً. 
أما الفرق الأخرى فإما أن أمرها مفضوح، وغشها مكشوف، وكذبها صراح، وهذه ليس لنا معها حديث لأن المستشرقين أنفسهم يعترفون الآن بأن مثل هذه الفرق لا وزن لها، وإما أنها فرق منصفة للإسلام أو لا صلة لدراساتها بالإسلام ولذلك فهي بعيدة عن موطن الشبهات .
 
ولعلنا في مناسبة أخرى نعرض لآراء المستشرقين المنصفين للإسلام ونوفيهم حقهم من التقدير .
منهج المستشرقين:
وقبل عرض أمثلة من آراء هذه الفئة التي صدرت آراؤها ومواقفها باسم العلم والموضوعية يهمنا هنا أن نتعرف على المنهج الذي يستخدمه المستشرقون في دراستهم للإسلام .
يقول ( رودي بارت ) : 
 
( فنحن معشر المستشرقين، عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها قط لكي نبرهن على ضعة العالم العربي الإسلامي، بل على العكس، نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذي يمثله الإسلام، ومظاهره المختلفة، والذي عبر عنه الأدب العربي كتابة، ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شيء ترويه المصادر على عواهنه دون أن نعمل فيه النظر، بل نقيم وزناً فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخي أو يبدو وكأنه يثبت أمامه، ونحن في هذا نطبق على الإسلام وتاريخه، وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها المعيار النقدي نفسه الذي نطبقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن ) .
 
وقد لا يبدو على هذا المنهج غبار من وجهة النظر العلمية. ( فالقوم يدرسون العلوم الإسلامية العربية ويضعون نظريات، ويكونون آراء في أثناء ما يقومون به من دراسات، ويهتمون بتقديم أدلة وأسانيد لهذه الآراء والنظريات، يستمدونها من المراجع الإسلامية نفسها، وهذا العمل في ظاهره عمل علمي سليم. ولكن الفحص الدقيق أثبت أن كثيراً منه مصنوع، وكثيراً ما يكون الدافع إليه الرغبة في التجريح، وتوهين العقيدة الدينية والشريعة الإسلامية ).
 
قد عرض مثلاً أحد المستشرقين المعاصرين وهو . جاستون فييت) في كتابه ( مجد الإسلام ) ـ تاريخ الإسلام عن طريق صفحات مختارة من أقوال المؤرخين والكتاب المعاصرين لكل فترة من فترات هذا التاريخ . وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الكتاب ينضح بالحقد والطعن في الإسلام وتاريخه، لأن ( جاستون فييت ) اختار فقط النصوص التي تتفق مع الاتجاه الذي اختاره هو سلفاً وهو اتجاه يتسم بالعداء والكراهية للإسلام والمسلمين. 
 
والبحث العلمي النزيه لا صلة له إطلاقاً بالرغبة في الطعن والتجريح، والبحث عن نقاط الضعف والتشوية، وتسقط الأخطاء. والأسلوب العلمي يحتم ضرورة الاستيثاق من صحة النصوص والأسانيد التي نستنبط منها ما نستنبط من نظريات، ولكن الرغبة في التجريح والتشويه كثيراً ما حملت المستشرقين على التماس أسانيد واهية مرفوضة يؤيدون بها ما يقررونه من نظريات . ( فهم لا يترددون في الاعتماد على الأحاديث الضعيفة وهم ينقبون في طوايا كتب التاريخ والسير عن أخبار ضعيفة غير ثابتة يدعمون بها آراءهم. ولهم صبر لا ينفد في استكشاف هذه المخبوءات واستغلال الضعيف من الدلالات. ومهما يكن من شيء فهم لا يستوعبون دراسة ما بأيديهم من المسائل، وكثيراً ما يغفلون النصوص والأخبار التي تناقض ما يقررون ) . 
 
وهذا بطبيعة الحال أمر ليس من العلم في شيء، وإنما هو انحراف عن النهج العلمي السليم. وهذا الانحراف العلمي هو للأسف طابع الكثير من الدراسات الاستشراقية حول الإسلام، الأمر الذي يجعلنا ـ نحن المسلمين ـ نقف من هذه الدراسات موقف الحذر ، ويحتم علينا الكشف عما فيها من زيف وخداع . فالكثير من النظريات والآراء التي يقولون بها مبنية على افتراضات لا أساس لها وتخمينات لا سند لها .
 
والواقع أنه ليس بالأمر الغريب أن يختلف المستشرقون معناـ نحن المسلمين ـ في الرأي حول الإسلام ، وإنما الغريب أن يتفقوا معنا في الرأي ، وذلك لأن منطق تفكيرهم بالنسبة للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم يختلف عن المنطق الذي يصدر عنه تفكير المسلمين. ولهذا تختلف وجهات النظر بيننا وبينهم وستظل مختلفة. فلا ننتظر منهم أن يتبنوا وجهة نظرنا التي تنظر إلى الإسلام على أنه دين سماوي ختم به الله الرسالات السماوية، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن القرآن الكريم وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنهم لو فعلوا ذلك لأصبحوا مسلمين. وهذا ما حدث بالفعل بالنسبة لبعضهم ممن تحول إلى الإسلام . وهذا التحول إلى الإسلام يعني في الوقت نفسه التحول عن الخط الاستشراقي . 
 
ونحن لا نطلب من كل مستشرق أن يغير معتقده ويعتقد ما نعتقده عندما يكتب عن الإسلام . ولكن هناك أوليات بديهية يتطلبها المنهج العلمي السليم. فعندما أرفض وجهة نظر معينة لابد أن أبيّن للقارئ أولاً وجهة النظر هذه من خلال فهم أصحابها لها ثم لي بعد ذلك أن أوافقها أو أخالفها. 
 
وعلى هذا الأساس نقول : إن الكيان الإسلامي كله يقوم على أساس الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقى القرآن وحيا من عند الله . ويجب على العالم النزيه والمؤرخ المحايد أن يقول ذلك لقرائه عندما يتعرض للحديث عن الإسلام حتى يستطيع القارئ أن يفهم سـر قوة هذا الإيمان في تاريخ المسلمين، ثم له بعد ذلك أن يخالف المسلمين في معتقدهم وتصوراتهم أو يوافقهم ( غير أن هذا المنهج المنطقي والطبيعي في العرض قلما يتبع مع الأسف، وكثيراً ما يحدث العكس. فيتعرض القارئ نتيجة لذلك ـ ما لم يكن على علم ـ إلى شيء من الإيحاء برأي معين ، أو يتعرض على الأقل إلى اختلاط في الأمور يجعله عاجزاً عن التمييز بين الأصل المتوارث لدى جماعة المسلمين وبين رأي الكاتب . وهكذا نجد كثيراً من المستشرقين الذين يحملون غيرهم أعباء معارفهم الخاصة يهملون ملاحظة مبادئ أولية للمنهج العلمي في معالجة المسائل التاريخية. فهم يؤكدون مثلاً أن القرآن من إنشاء محمد. ثم يذهبون مذهباً بعيداً في تأسيس الأحكام التاريخية والعقيدية والأدبية وغيرها على هذا التأكيد ، وسرعان ما ترتفع هذه بمحض الشهرة إلى مرتبة الحقائق ) . 
 
وقد يكون صحياً القول بان ألوان التحامل القديم على الإسلام قد خفت حدتها إلى درجة كبيرة منذ مطلع هذا القرن ، ولكنها للأسف الشديد لا تزال تعيش قوية، ولا تزال هناك فئة من الباحثين الغربيين المهتمين بدراسة الإسلام تحرص حتى اليوم على نشر ألوان التحامل القديم في العالم الغربي على نطاق واسع بأساليب مختلفة. 
 
فإذا عبر المسلمون عن استيائهم إزاء التحامل الظالم على الإسلام من جانب المستشرقين فإن هذا يعني في نظر بعض الباحثين الغربيين عدم قدرة المسلمين على فهم الأمور فهماً علمياً، فالمستشرقون ليس لديهم أحكام مسبقة كما نعتقد، والحقائق التي يتوصلون إليها تتسم بالحياد والموضوعية والعلمية. 
 
ومعنى ذلك أن علينا أن نتقبل ما يقوله السادة المستشرقون عنا وعن ديننا ونحن صاغرون، وليس لنا حتى مجرد حق التعبير عن الاستياء وإلاّ فنحن متخلفون جاهلون، قاصرون عن فهم الأمور فهماً علمياً . 
ولست أدري من الذي ندب مثل هؤلاء الناس المتغطرسين لتنويرنا ؟ ومن أعطاهم حق الوصاية الفكرية علينا؟ 
أليس هذا يعد تدخلاً سافراً في أخص أمورنا الذاتية ؟ وهل يقبل هؤلاء أن نتدخل في أي أمر من أمورهم صغر أم كبر؟!