عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقاتاً صعبة منذ نزول الوحي في غار حراء وحتى فتح مكة، ما جعل الرسول يضع هؤلاء الصحابة في منزلة لا يصل إليها أحد ، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه))
كما أن الله سبحانه وتعالى قال في محكم التنزيل : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا .
وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وفي آيات عديدة ذكرهم الله تعالى وترضّى عنهم.
 

- في فتح قال رسول الله: ما أدري بأيّهما أنا أشدّ حرصاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر
- كان رضي الله عنه سبباً في إسلام النجاشي ملك الحبشة

 
جعفر بن أبي طالب الهاشمي القرشي المعروف بجعفر الطيار، أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، كنيته أبو عبد الله، وكناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا المساكين؛ لأنَّه كان يعطف على المساكين ويتفقدهم ويجلس معهم، ولد بمكة قبل البعثة.
 
كان من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بن أبي طالب بقليل، ثاني من صلَّى مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم– من الرجال في أوّل جماعة عُقدت في الإسلام، هاجر في السنة الخامسة من البعثة مع الدفعة الثانية التي هاجرت إلى الحبشة، وكان جعفر على رأس المهاجرين، وصحب معه زوجته أسماء بنت عميس. لمنـزلته العظيمة ودوره الكبير في نشر الإسلام وتبليغه، ضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر سهماً من الغنيمة حاله حال المقاتلة، ولـم يكن جعفر حاضراً فيها. قدم على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم- في السنة السابعة من الهجرة، حيث كان فتح خيبر، فاعتنقه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: “ما أدري بأيّهما أنا أشدّ حرصاً، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر”.  لُقب جعفر بذي الهجرتين؛ لأنه هاجر من مكة إلى الحبشة، ومنها إلى المدينة، حيث أنزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنب المسجد، واختار له منـزلاً هناك. أمّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جيش المسلمين في غزوة مؤتة، فإن قُتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبد الله بن رواحة. قُطعت يده اليمنى فقاتل باليسرى حتّى قطعت، فضرب وسطه فسقط شهيداً مضرجاً بدمه سنة 8هـ في مؤتة، وهي قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، ودفن بها، وله مزار معروف هناك. حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوفاته حزناً شديداً، وبكى عليه، وقال: “على مثل جعفر فلتبكِ البواكي”. وقال -صلى الله عليه وسلم- واصفًا خصال جعفر: “إنَّ خُلُقك خُلُقي، وأشبه خَلْقك خَلْقي، فأنت مني ومن شجرتي”. وقال -صلى الله عليه وسلم- لمّا قُتل جعفر: “إنَّ الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء”.
تزوج جعفر بن أبي طالب من أسماء بنت عُمَيْس -رضي الله عنها-، وكانت قد أسلمت وهاجرت معه إلى الحبشة، وبعد أن استشهد -رضي الله عنه- تزوجت من أبي بكر الصديق.
كان للصحابي جعفر بن أبي طالب ثلاثة من الأبناء الذكور، وهم: عبد الله، وبه كان يكنّى، ومحمد، وعون، وكان لعبد الله أبناء من ولد ونسل جعفر، ومحمد وعون لا عقب لهما، وقد رُزق -رضي الله عنه- بهم جميعاً في أرض الحبشة، فقد روى عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه قال: «ولد جعفر بن أبي طالب عبد الله، وعون، ومحمد بنو جعفر، وأخواهم لأمهم يحيى بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر، وأمهم الخثعمية أسماء بنت عُمَيْس -رضي الله عنهم أجمعين-».
 
ألقاب جعفر بن أبي طالب
 
عُرِف الصحابي الجليل جعفر بالشجاعة في القتال، والإقبال في المعارك، فقد أبلى بلاءً حسناً في غزوة مؤتة، فورد في كتب السيرة أنّ الله -عزّ وجلّ- أبدل جعفر -رضي الله عنه- بجناحين يطير فيهما بالجنّة، وذلك بعد أن قُطّعت يديه وقدميه، فأخبر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عنه ذلك، لذلك سُميّ -رضي الله عنه- بجعفر الطيّار، وذكر الشعبي أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا سلم على ابن جعفر قال: «السلام عليك يا ابن ذي الجناحين».
 
أبو المساكين
 
فقد كان -رضي الله عنه- يُحب المساكين ويقف إلى جانبهم، ويحرص على الجلوس والحديث معهم، ويقدّم لهم ما عنده من الطعام والشراب، فكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يسميه أبا المساكين، وقد شهد له أبو هريرة بذلك، فقال: (وكانَ أخْيَرَ النَّاسِ لِلْمِسْكِينِ جَعْفَرُ بنُ أبِي طَالِبٍ؛ كانَ يَنْقَلِبُ بنَا فيُطْعِمُنَا ما كانَ في بَيْتِهِ، حتَّى إنْ كانَ لَيُخْرِجُ إلَيْنَا العُكَّةَ الَّتي ليسَ فِيهَا شَيءٌ، فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ ما فِيهَا)، ويقصد بالعُكّة الوعاء الذي يوضع فيه الطعام، فدلّ ذلك أن جعفر رضي الله عنه كان كريماً سخيّاً جواداً.
 
 
مناقب جعفر بن أبي طالب
 
حُبّ رسول الله الشديد له: فعندما رجع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من فتح خيبر، استقبله جعفر -رضي الله عنه- بعد أن وصل للمدينة، فلقيه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وقبَّل بين عينيه، ثمّ قال: (ما أدري أنا بقدومِ جعفرٍ أسرُّ أم بفتحِ خيبر).
أحد أهل الجنة: فقد شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة، فقال: (أُريتُ جَعفَرَ بنَ أبي طالبٍ في الجنَّةِ مَلَكًا ذا جَناحَينِ يَطيرُ فيها حيث شاء مُضرَّجةً قَوادِمُه بالدِّماءِ).
دعاء رسول الله له: فعندما جاء خبر وفاة الصحابة -رضوان الله عليهم- في معركة مؤتة، قال -عليه الصلاة السلام-: (اللَّهُمَّ اغفِرْ لزَيدٍ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لزَيدٍ، ثَلاثًا، اللَّهُمَّ اغفِرْ لجَعفَرٍ وعَبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ).
شهادة الصحابة له بالأفضلية: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (ما احتَذى النِّعالَ ولا انتعلَ ولا رَكِبَ المطايا ولا رَكِبَ الكورَ بعدَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أفضَلُ من جعفرِ).
 
 
موقف جعفر مع النجاشي
 
يُذكر أنّه عندما اشتدّ التضييق والعذاب على المسلمين من قريش في مكة المكرمة، أمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- المسلمين بالذهاب إلى الحبشة، ففيها النجاشي؛ وهو الملك الذي لا يُظلم عنده أحد، فهاجر بعض الصحابة ومن بينهم جعفر -رضي الله عنهم أجمعين-، وعندما أدركت قريش ذلك طالبت النجاشي بتسليم المسلمين لهم، فلم يستجب النجاشي لهم، وعندما راجع المسلمين بذلك رد جعفر عليه، وقد كان -رضيَ الله عنه- أميراً على المؤمنين وقائدهم وخطيبهم، قائلاً: «أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه..»، إلى نهاية حديثه.
فرفض النجاشي تسليمهم بعد ذلك لقريش، ثمّ أعلن إسلامه بعد أن سمع بعض الآيات من سورة مريم، فقد كان رضي الله عنه سبباً في إسلام النجاشي، حيث تمكّن من إقناع النجاشي بدعوة الإسلام؛ وذلك لتميّزه رضي الله عنه بفطنته وذكائه، ورجاحة عقله في مناقشته ومحاورته مع النجاشي، وشجاعته وجرأته في إظهار الحقّ.
 
استشهاده
 
كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد أمّر في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فإذا استشهد يتولى القيادة من بعده جعفر بن أبي طالب، وإذا استشهد جعفر، فعبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم أجمعين-، فانطلق جيش المسلمين لملاقاة العدو، فقاتل رضي الله عنه في ساحة المعركة بكل شجاعة وبسالة، وأبلى فيها بلاء حسناً، وبعد استشهاد زيد بن حارثة كان قد استلم الراية، وقد حماها بكل ما يملك، فأمسك الراية بيده اليمنى، حتى أصيبت وقطعت، ثم أمسها بيده اليسرى، حتى أصيبت وقطعت، إلا أنه لم يدعِ الرّاية تسقُط أبداً، إذ أخذها بكلا عُضدَيه، وقاتل حتى سقط شهيداً رضي الله عنه.
وقد نقل يحيى بن عباد، عن أبيه قولاً: «لكأني أنظر إلى جعفر يوم مؤتة حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل حتى قتل»، فكان أول من عقر في الإسلام،وقد وصفه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن استشهاده فقال: (أنَّه وقَفَ علَى جَعْفَرٍ يَومَئذٍ، وهو قَتِيلٌ، فَعَدَدْتُ به خَمْسِينَ، بيْنَ طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ، ليسَ منها شيءٌ في دُبُرِهِ يَعْنِي في ظَهْرِهِ).
 
موقف الرسول من استشهاده
 
 
كان للصحابي جعفر -رحمه الله تعالى- المكانة الواضحة في الإسلام، وظهر ذلك جليّاً في مواقف رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عند خبر استشهاده، فيما يأتي ذكر بعض هذه المواقف:
عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: (دخَلَ علَيَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فدَعا بَني جَعفَرٍ، فرأيْتُه شَمَّهم، وذرَفَتْ عَيناه! فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أبلَغَكَ عن جَعفَرٍ شيءٌ؟ قال: نعمْ، قُتِلَ اليومَ. فقُمْنا نَبكي، ورجَعَ، فقال: اصنَعوا لآلِ جَعفَرٍ طَعامًا، فقد شُغِلوا عن أنفُسِهم).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لما جاءت وفاة جعفر عرفنا في وجه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الحزن».