في ظل عالم تتسارع فيه المتغيرات وتتعدد فيه التحديات، تزداد الحاجة إلى مرجعية راسخة تضبط مسار القرار القيادي وتوجهه نحو الحكمة والعدل، وتمثل القواعد الفقهية في هذا الإطار ضابطًا أصيلًا، يمنح القائد معيارًا شرعيًا للتفكير السليم واتخاذ القرار الرشيد.
فالقيادة ليست مجرد اجتهاد شخصي أو استجابة آنية للظروف، بل هي مسؤولية عظيمة تقتضي التزامًا بمنهج واضح يحفظ الحقوق ويحقق المصالح، وهو ما تقدمه القواعد الفقهية بتأصيلها العميق ومنهجيتها الواسعة.
أولًا: تصحيح النية وتوجيه الهدف:
تؤكد قاعدة «الأمور بمقاصدها» أن لكل تصرف نية، ولكل قرار غاية، وعلى القائد أن يستحضر المقصد الشرعي من كل قرار يصدره، واضعًا في اعتباره تحقيق مصلحة مشروعة بعيدًا عن الأهواء الشخصية أو المصالح الآنية.
فصلاح النية أساس صلاح القرار، ومفتاح بركته وقبوله.
ثانيًا: تحقيق التوازن بين المصالح ودفع المفاسد:
تضع قاعدة «الضرر يزال» القائد أمام مسؤولية كبرى في وزن النتائج المترتبة على قراراته، بحيث يسعى لتحقيق أعلى قدر من المصالح ودفع أكبر قدر من المفاسد.
فكل قرار يُحتمل أن يُحدث ضررًا بَيِّنًا، يجب إعادة النظر فيه أو تعديله بما يحقق مقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل.
ثالثًا: مراعاة الواقع الاجتماعي والعرف السائد:
انطلاقًا من قاعدة «العادة محكّمة»، ينبغي للقائد أن يراعي السياق الاجتماعي والعادات المعتبرة عند صياغة قراراته، بحيث تكون أقرب للقبول وأقدر على تحقيق أهدافها دون صدام مع ما جرت به العادة، ما لم تتعارض مع نص شرعي صريح.
رابعًا: الثبات واليقين في اتخاذ القرار:
ترسخ قاعدة «اليقين لا يزول بالشك» أهمية بناء القرار على معطيات راسخة ومعلومات موثوقة، مع الحذر من التردد والتراجع غير المبرر أمام الشكوك أو الضغوط.
فالقائد الناجح يتخذ قراره بثقة، وينفذه بثبات، مع الاستعداد للمراجعة إن ظهر يقين جديد يقتضي التغيير.
خامسًا: التيسير في حالات المشقة:
تؤكد قاعدة «المشقة تجلب التيسير» أن القيادة الواعية تتطلب التخفيف عن الفريق والمؤسسة في حال وقوع المشقة المعتبرة، فالتيسير في القرارات لا يعني التهاون، بل هو استجابة حكيمة تراعي قدرات الناس وأحوالهم، تحقيقًا لروح الشريعة السمحاء.
إن القواعد الفقهية تمثل إطارًا قيميًا وعمليًا لضبط القرار القيادي، فهي تمنح القائد معيارًا شرعيًا راسخًا، يجمع بين سلامة المقصد، وصحة الإجراء، وحسن تحقيق المصالح ودفع المفاسد.
فالقيادة التي تستلهم نور القواعد الفقهية، ترسو على بر الأمان، وتحقق بإذن الله مقاصد العدل، وتنال ثقة الناس ورضا الخالق عز وجل.
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق).