صدر أخيرا كتاب «جذور الثقافة في المنطقة العربية» لمؤلفه الدكتور إسماعيل الشطي، وهو كتاب ضخم، طبع في أربعة مجلدات، واصدره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، يتناول تاريخ الثقافة في المنطقة منذ آلاف السنين، والمؤلف شخصية سياسية وإعلامية وأكاديمية، كان له حضور واسع في الأوساط المحلية وغير المحلية، توارى عن الأضواء منذ عقد من الزمان، واكتفي بالبحث والتاليف. وأجرت جريدة النهار معه هذا الحوار الذي تنقله « الوسط » عنها ، لتستكشف ما وراء هذا الكتاب. 
 
 
 
< ما هي الفكرة التي تريد إيصالها للقارئ العربي من خلال كتابة “جذور الثقافة”؟  
 
 
- الكتاب يسعى إلى إعادة ثقة الإنسان العربي بتاريخه وثقافته، ويسلط الضوء على رسالته الخالدة في تحويل الأرض الموحشة إلى معمورة، وتكريس مقومات الأنسنة في مواجهة الهمجية والوحشية، ويسعى لبناء جسور مع تاريخ المنطقة القديم الذي سبق الديانات الإبراهيمية، ذلك التاريع الذي ادانه تراث الديانات الإبراهيمية، واعتبره تاريخا وثنيا، واحدث قطيعة صارمة معه. 
الأمر لا يقتصر على تاريخ الدلمونيين والعبيديين والسبئيين والسومريين والأكاديين وقدماء المصريين والبابليين والآشوريين والفينيقيين، بل يشمل تار&<740;خ العرب قبل الإسلام، الذي وصف بالتاريخ الجاهلي، ولعل الكتاب يحاول أن يعيد بناء صورة ذهنية صحيحة للإنسان الذي عاش على هذه المنطقة، والذي أطلقت عليه تسمية “العربي” في الألفي سنة الأخيرتين. 
 
 
هم أجدادنا ونحن نسلهم 
 
 
< هل تريد أن تقول أن تلك الشعوب التي ذكرتها من سومريين وقدماء المصريين والفينيقيين كانوا عربا؟ 
 
 
- اريد القول إن أولئك الأقوام كانوا على ارضنا، أرض الجزيرة العربية القديمة بمفهومها الواسع، التي كانت تضم الأناضول والشام وبلاد الرافدين وشرق النيل، فضلا على ما اصطلح عليه مؤخرا بشبه الجزيرة العربية، اقول، مؤلاء القوام كانوا موجودين قبل أن تصبح كلمة عرب اسم علم، وقبل ان ياتي سايكس وبيكو ليقسما ارضهم إلى دويلات، هؤلاء كانوا أجدادنا، ونحن نسلهم، وورثتهم، وتراثهم جزء من إرثنا، وعلينا ان نبحث في هذا التراث لنكتشف تاريخ ذاتنا الجمعية .
 
 
< لكن المعروف ان تلك المناطق التي ذكرتها لم تصبح عربية إلا بعد الفتح الإسلامي.
 
 
 
 - هذا من الأخطاء الشائعة التي كرستها السلطة المعرفية الكولونيالية، والتي اعتمدت سياسة «فرق تسد»، فالمؤرخون والجغرافيون اليونانيون والرومان القدماء كانوا يعتبرون المنطقة الواقعة من شرق النيل إلى الفرات منطقة عربية، ولذلك عندما فتح القائد الروماني المنطقة الواقعة بين النيل والفرات أطلق عليها تسمية العربية، ومملكة الرما في الأناضول كانت مملكة عربية حكمها الأباجرة، وحتى الجغرافيون العرب القدماء، الذين لم يستخدموا مصطلح شبه الجزيرة العربية، كانوا يعتبرون جزيرة العرب محاطة بالمياه كاي جزيرة، من بحر العرب إلى البحر الأسود، ومن نهر النيل إلى نهر الفرات والخليج العربي، والعروبة هي ثقافة، وليست لسانا، فالعرب تحدثوا من مخزون لغوي مشترك بالسنة عدة، ذات أصل مشترك، لكنهم ظلوا عربا، لسان قر&<740;ش غير لسان حمير، ولسان حمير غير لسان حضرموت، ولسان بابل غير لسان قدماء المصريين، ولسان الرها غير لسان البتراء، لكنهم جميعا كانوا قادرين على التفاهم بينهم اثناء ترحلهم وانتقالهم، تماما مثلما نحن اليوم قادرون على التفاهم بيننا في عالمنا العربي رغم اختلاف اللمبات. 
 
 
 
 < أنت هنا تصطدم مع مفاهيم مستقره، فالعربي هو من تحدث بالعربية، والقرآن ربط العروبة باللسان، فمن أين أتيت بفكرة العروبة في الثقافة؟
 
 
 
 - نعم انا اصطدم مع مقولة سائدة ومستقرة، وهي التي تربط القومية باللسان. هذه مقولة نشات رسميا مع الفكر القومي في أواخر القرن الثامن عشر، عندما ظهرت الدولة القومية وفكرة السيادة، إذ أن عماد الدولة القومية في الأرض التي يتحدث شعبها بلغة مستقلة، فاصبحت اللغة هي المعيار الاساسي لنشوء الدولة القومية، ولذلك الجات فرنسا إلى إقصاء اللهجات الجهوية في فرنسا وفرض الفرنسية كلغة رسمية وحصرية في جميع المجالات، تحت شعار الغة واحدة لجمهورية واحدة»، وهو ما سمي بالنظام اليعقوبي، ورغم ذلك، عندما نتحدث عن الغرب كامة وحضارة، نقول الثقافة الغربية، ونتجاوز 24 لفة اوروبية رسمية، فالثقافة هي التي تمنحهم صفة غربي، وليس اللفة، فهي الأصل الجامع للغربيين بمن فيهم الأميركيون والأوستراليون والنيوزيلنديون، ولذلك فإن العروبة هي ثقافة مشتركة ذات مخزون لغوي مشترك، لم يبق فيه اليوم سوى الفصحى واللهجات العامية والسريانية والمصرية والسوقطرية والعبرية والدرامية والأمازيغية والشحرية والخولانية والامهرية، اما القرآن فقد وصف الفصحى بلسان عربي مبين، معتبرا إياها الأقدر على البيان من غيرها من السنة العرب بمعنى ان هناك لساناعربيا غير مبين، ولذلك عندما قال ابن العلاء «ما لسان چقير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا»، فهو لم ينف العروبة عن لغة حمير وأهل اليمن، إنما أكد الإختلاف بينها وبين لغة مضر.
 
 
 < إذا شبه الجزيرة العربية ليست هي الموطن الوحيد للعرب قبل الإسلام، بل يشمل موطنهم بلاد الرافدين والشام والأناضول وشرق النيل.
 - لا. ما ذكرته هو حدود الجزيرة العربية، أما موطن العرب فهو اشمل من ذلك، ويضم الشمال الأفريقي والقرن الأفريقي. 
< ما هو المركز الحضاري الأول في الجزيرة العربية وفق الحدود التي ذكرتها؟» 
 
 
 
- هذا سؤال تصعب الإجابة عنه ما دامت الجزيرة العربية لم تستوف استكشافاتها الادارية والأركيولوجية. فالمملكة العربية السعودية التي تمثل رقعة شاسعة من ارض شبه الجزيرة ما زالت ارضابكرا الإستكشافات، بالرغم من النشاط الحيوي الفرق المحلية والأجنبية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وكان يظن أن العبيد وسومر هما أقدم مركز حضاري في الجزيرة العربية، وموقعهما شمال الخليج وجنوب العراق لكن الوثائق المسمارية تتحدث عن دلمون ومجن وملوخا، وهي مراكز حضارية لا نعرف الكثير عنها، ولا نعرف اي منها الأقدم، كما أن الاكتشافات الأثارية السعودية كشفت عن موقع عمران سكاني متحضر في وادي الدواسر بنجد عمره تسعة آلاف سنة قبل الميلاد، غير ان هناك من المؤرخين والأركيولوجيين من يعتبر أن الجنوب العربي هو المركز الحضاري الأول، وعلى العموم فإنني أميل إلى أن المراكز الأولى يصعب الوصول إليها، فهي إما تكون قد غمرتها مياه البحر في حوض الخليج، او دفنتها الرمال في منطقة الأحقاف 
 
 
< ولماذا؟ 
 
 
- إذا صح أن الجزيرة العربية كانت من مواطن الإنسان العاقل الأولى، إن لم تكن الأولى، وهذا قبل مائة الف سنة، فإن جغرافيا الجزيرة العربية كانت في ذلك الوقت مختلفة تماما عما هي عليه الآن، اي انها جغرافيا تنتمي إلى القصر البليستوسيني المتأخر، اي ضمن العصور الجليدية، مما يعني أن جنوب الجزيرة العربية كان يتمتع بهئاغ رائل، وتجري في اراضيه مئات الأنهر، ويضم عشرات البحيرات العذبة، ويذكر العلماء أن حوض الخليج العربي كان ارضا خصبة يجري فيها نهران، هما امتداد لدجلة والفرات، ويصبان في خليج عمان، وكان بينهما ارض مكسوة باشجار النخيل، بينما الشمال كان قارس البرودة، وكانت اراضيه تغمرها المستنقعات الكثيرة بسبب ذوبان الثلوج، غير أن المياه العذبة والمناع الرائق لم يكونا العاملين الوحيدين لاختيار مواطن بناء القرى والمدن، بل كان تجنب المناطق الجبلية هو أحد المعايير في ذلك، لا بسبب برودتها العالية فقط، لكن بسبب كثرة البراكين ومناطق الزلازل، وبسبب أن المناطق الجبلية كانت موطن المتوحشين والهمج الذي كانوا يغيرون على المدن ويدمرونها، لهذا فإن الأرجح ان المراكز الأولى كانت بعيدة عن سلسلة الجبال المحيطة بشبه الجزيرة وانها اقرب ما تكون في مناطق وسط نجد والأحقاف وحوض الخليج العربي، وهي مناطق غمرتها مياه البحر في نهاية العصر الجليدي، لتشكل الخليج العربي، او دفنتها الرمال لتشكل الربع الخالي.
 
 <  ولكن الاكتشافات العلمية تشير إلى وجود الانسان قبل ملايين السنين، وليس من الف سنة، فلا بد أن تكون هناك مراكز حضارية أقدم من تلك التي في الجزيرة العربية. 
-  كتاب جذور الثقافة يتناول الإنسان العاقل في الجزيرة العربية منذ البداية، وليس بالعالم، ولذلك بحثه محصور بالجزيرة العربية حسب الحدود القديمة، ولا يشمل هذا البحث المخلوقات الشبيهة بالإنسان، مثل النياندرتال وما شابهة، والتي وجدت قبل الإنسان العاقل على هذه الأرض، وعثر على عدد من جماجمها في بعض المناطق المختلفة من العالم، والأنثروبولوجيون 
 
لا يقدرون عمر الإنسان العاقل بملايين السنين، بل تقديراتهم تقل عن مئتي الف سنة، وهذه كلها تقديرات تقريبية تنقصها الدقة، ومايذكر عن ملايين السنين متعلق بجماجم المخلوقات شبيهة الإنسان، لكن بسبب الصراع المعرفي الحاصل اليوم بين السلطة المعرفية التقليدية القديمة والسلطة المعرفية الغربية المعاصرة، ومحاولات تقديم نظرية داروين عن أصل الإنسان كحقيقة علمية، اقول بسبب هذا الصراع بتم تزوير الحقائق، وإخفاء الادلة وفبركة الإثباتات، وأحيانا قمع الرأي الآخر، لكن إجماع العلماء المعاصرين على ان اقدم حضارات او ثقافات الإنسان العاقل موجودة حتى الآن في منطقة الجزيرة العربية بعضهم اعتبرها حضارة مصر القديمة، وبعضهم اعتبرها حضارة سومر، وبعضهم اعتبرها حضارة الجنوب العربي. 
 
 
< وهل هناك صراع معرفي اليوم؟ 
 
 
-نعم، هناك صراع بين منظومتين معرفيتين، المنظومة الأولى تقف خلفها كل الثقافات الكلاسيكية القديمة والديانات والكتب السمووية، والمنظومة الثانية تقف خلفها السلطة المعرفية المعاصرة بمنظماتها الدولية وأجهزة الإعلام والنشر، والمؤسسات التعليمية والتربوية والأكاديمية والبحثية وكل منظومة تقدم تصوراتها عن القوة الخالقة والحياة والكون والإنسان، وكل منظومة تقدم مصادرها المعتمدة لإستقاء المعرفة، فالمنظومة القديمة تقدم تصورها عن الانسان الأول بانه آدم، خلقه الله متعلما ومزودا كل المعارف التي يحتاجها لإنشاء أجيال من البشر وتعمير الأرض، ومعارفه قسمان، معارف يقينية لا يمكن اكتسابها إلا من الله، وهي تتعلق بالعالم غير المشهود، والعوالم المتناهية الصفر والمتعاظمة بالكبر، والأخرى معارف غ&<740;ر &<740;ق&<740;ن&<740;ة، يكتسبها الإنسان بالتفكير والاستقراء والتجريب.
 أما المنظومة الثانية فتقدم تصورات مختلفة عن القوة الخالقة والكون والحياة والإنسان، وتعتبر أن الحياة نشات مصادفة، وان اول المخلوقات الحية اوجد نفسه بنفسه، واخذ يتطور خلال ملايين السنين حتى انتج ارقي المخلوقات، وهو الإنسان، فالإنسان في التصور الآخر استهل حياته متوحشا همجيا كبقية الحيوانات، ثم تطور واصبح متحضرا، وان الحضارة الغربية تمثل أرقى ما وصل إليه الإنسان حتى الآن، وأن عالمه هو العالم المحسوس، ولا يوجد عالم غيبي، ولذلك لا يحتاج إلى مصدر يخبره عن العالم الغيبي، وأن مصدر المعرفة الموثوق به هو العلم الذي تنتجه المؤسسات الأكاديمية والبحثية المعتمدة دوليا، وبسبب هذا الخلاف يعيش الإنسان المعاصر أزمة الازدواج المعرفي، فهو يتلق&<740; في البيت والمعبد تصورا عن الله والإنسان والحياة والكون، ويتلقى في المدرسة والإعلام تصورا مغايرا، وهذه صورة من صور الصراع المعرفي، وأحيانا تشتد شراسة هذا الصراع حيث تلجا الاطراف المتصارعة لمنع تدريس إحدى هاتين المنظومتين في المدارس، أو السماح بتدريسهما معا، وتبدا عملية صراع الأدلة والبراهين، ومحاولات فبركتها 
 
 
< عودة إلى الكتاب، لماذا اعتبرت الديانات الإبراهيمية مسؤولة عن القطيعة مع التاريخ القديم الذي سبق وجودها؟
 
 
 - لم اقل الديانات، بل قلت تراث الديانات الإبراهيمية، ذلك أن الديانات السموية جاءت برسالة واحدة تؤكد مفاهيم الأنسنة، الإنفتاح على الإنسان الآخر، والاعتقاد باننا أخوة من رحم واحد عتيق، ومشاركة الحياه معه، وتبادل المشاعر الإنسانية والأفكار معه، ومساعدته إن احتاج، وإغاثته إن نزلت به نازلة، وهي ثقافة المنطقة منذ بدء الحضارات، وكان عدو الإنسان هو الهمجي المتوحش، وأكبر المخاطر على الإنسان أن يتحول إلى همجي، لذلك تشبعت ثقافة المشرقيين القدماء بالنزعة الإنسانية، وكرست كل ما يميزها عن عالم البهيمية، غير ان تراث الديانات الإبراهيمية حول الرسالة إلى شريعة، وقسم البشرية إلى ملل، واستبدل ثنائية الإنسي والوحشي، بثنائية المؤمن والكافر، ولعل تراث اليهودية هو من بدا ذلك، إذ اعتبر غير اليهودي كائنا منقوص الآدمية والحقوق، وترتب على ذلك اعتبار الخارج من الملة وثنيا مستباحا، يتصف بالنجاسة، ورغم خطورة هذه النزعة، إلا أنها كانت محدودة بمجموعة دينية صغيرة، لكن بعد اعتناق الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية ذات الخلفية التوراتية تفير الأمر، إذ لجات تلك الديانة إلى تقليد اليهودية بتحويل الرسالة إلى شريعة وتقسيم البشرية إلى مؤمن وكافر، ووصمت تاريخ المشرق الموغل بالقدم بالوثنية، مما دفعها إلى تدمير المعابد، وحرق الكتب، وإغلاق المدارس والكليات الجامعية، والتبرؤ من ثقافة وتاريخ ما قبل المسيحية، وإجبار مواطنيها على اعتناق المسيحية، وللمرة الأولى في تاريخ المنطقة تصبح العقيدة الدينية غير اختيارية، بل اجبارية، وهو ما انتهى بالقطيعة الكاملة مع التاريخ القديم.