يؤكد مختصون اقتصاديون أن العام الجاري يعد أحد أسوأ الأعوام التي مر بها الاقتصاد الروسي، فقد تعمقت ملامح الأزمة الاقتصادية وزادت حدتها حتى بالمقارنة مع أسوأ توقعات وزارة الاقتصاد الروسية، وبدا الأمر في بعض شهور هذا العام وكأن الدب الروسي دخل نفقا اقتصاديا مظلما، ومع هذا فإن الضوء كان يبرز من حين لآخر بأن الاقتصاد الروسي قادر على التعافي، إذا ما أجرى الكرملين مراجعة حقيقية لعديد من مواقفه الاقتصادية.
ويتجلى الوضع الصعب للاقتصاد الروسي في عديد من الأرقام والمواقف الدولية من كبريات المؤسسات المالية العالمية، فمؤسسة «موديز» للائتمان المالي والخدمات الاستثمارية قررت خفض درجة روسيا الائتمانية جراء تراكم الديون السيادية عليها فانتقلت من المستوى «بي إيه إيه 3» إلى «بي إيه 1»، وهو ما يعني أن موسكو الآن في وضع غير مرغوب فيه.
وجاء قرار «موديز» في أعقاب قرار مشابه لمؤسسة «ستاندر آند بورز» وهي إحدى كبرى شركات الخدمات المالية في العالم، حيث خفضت أيضا وضع روسيا في معدلات الائتمان إلى غير مرغوب فيه ليكون الكرملين ولأول مرة منذ عقود في هذا الموقف المتدني ائتمانيا على المستوى الدولي.
«موديز» أرفقت مع خفض معدل الائتمان الروسي تحليلا مستقبليا، حيث يتوقع أن تواجه روسيا ركودا اقتصاديا عميقا هذا العام والعام المقبل، فالمخاطر تتزايد، ما يعيق قدرة السلطات الروسية بصورة مباشرة أو غير مباشرة على سداد مدفوعات خدمات الدين في توقيتها.
الدكتور تيم ريتشارد المحلل الاقتصادي في الأسواق الناشئة والاستشاري في منظمة التجارة العالمية يؤكد أن الاقتصاد الروسي يواجه تحديات حقيقية يجب الإسراع بالتصدي لها، وإلا فإن الأزمة ستتفاقم وتدخل في مراحل يصعب الخلاص منها إلا بإجراءات عنيفة.
وأضاف «، أن الحجم الكلي للاقتصاد الروسي يبلغ 3.5 تريليون دولار، أي أقل من ألمانيا أكبر الاقتصادات الأوروبية، التي يبلغ حجم اقتصادها أربعة تريليونات دولار، مشيرا إلى أن الاقتصاد الروسي يعتمد في الأساس على الصادرات وخاصة النفط الذي يمثل نصف العوائد الحكومية.
وأشار ريتشارد إلى أنه في ظل العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية، وانخفاض أسعار النفط، وتواكب ذلك مع رغبة الكرملين في التوسع الخارجي، فإن موارد الدولة الروسية تقلصت وزاد إنفاقها، فكان عليها الاعتماد على الاستدانة، وسط عجز متزايد في القدرة على السداد.
وأوضح ريتشارد أنه على الرغم من أن الأرقام الرسمية تشير إلى تراجع الاقتصاد الروسي بنسبة 4.6 بالمئة هذا العام، إلا أن الإحصاءات غير الرسمية تشير إلى تقلصه بأكثر من 5 بالمئة، وإذا واصلت أسعار النفط الانخفاض، فإن معدل التراجع سيقفز العام المقبل إلى 8 بالمئة وهذا ينذر بأزمة حادة، خاصة للعملة الروسية.
ويقرأ الدكتور روب والتر أستاذ التحليل الاقتصادي في جامعة مانشستر الأرقام الخاصة بتقلص الاقتصاد الروسي بطريقة أكثر تشاؤمية حيال مستقبل البلاد الاقتصادي. وأوضح «، أنه عند تحليل الأرقام الرسمية سنجد أن الرقم تضاعف بشكل مخيف من 2.2 بالمئة فقط أول العام إلى 4.6 بالمئة الآن، وهذا يشير إلى تدهور سريع مع عجز حكومي على التصدي له أو إيقافه، وهذا أسوأ انهيار اقتصادي في روسيا منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2009.
وأشار والتر إلى أن الخطورة تكمن في أن هذا يحدث في الوقت الذي يتحسن فيه الاقتصاد الأميركي والأوروبي، كما أن الرقم الرسمي المعلن يتجاوز ما كانت تسعى له الحكومة وهو نسبة 4.4 بالمئة، وكان الكرملين يعتبرها وفقا للبيانات الرسمية لوزارة الاقتصاد «أدنى نقطة» يمكن الوصول إليها.
وأكد والتر أن الرؤية والأداء الاقتصادي للحكومة الروسية تدهور إلى مستوى أخطر من أسوأ السيناريوهات التي كانوا يتوقعونها، وهذا يعني أن موسكو دخلت وللمرة الثانية خلال فترة حكم بوتين ركودا اقتصاديا.
ولا تخفي الإحصاءات الرسمية أن انخفاض أسعار النفط وتراجع أسعار عديد من المعادن قد أضر كثيرا بمستوى معيشة المستهلك الروسي، فأسعار تجارة التجزئة انخفضت بنحو 9.4 بالمئة، وتراجعت قيمة الروبل الروسي في مواجهة الدولار بنحو 40 بالمئة.
ومع هذا، فإن الحكومة الروسية تسعى جاهدة لإحداث التوازن المطلوب بين تحقيق النمو مع الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة، فقد قام البنك المركزي الروسي بخفض معدلات الفائدة 5 مرات خلال هذا العام.
ورغم أن معدل التضخم وصل إلى 11.6 في منتصف العام، وارتفع إلى 15.6 بالمئة في آب (أغسطس) الماضي فإنه يتوقع انخفاضه بنهاية العام الجاري إلى 10.8 بالمئة.
ومع ذلك، فإن الاقتصاد الروسي يمتلك مجموعة من عوامل القوى إن أحسن استخدامها فإن روسيا يمكنها الخروج الآمن من أزمتها الاقتصادية، فهي تتمتع ببنية أساسية وصناعية تم تحديثها نسبيا خلال السنوات الماضية عندما كانت أسعار النفط مرتفعة، كما يوجد لديها موارد بشرية وكفاءات بشرية قادرة على إحداث تغيير اقتصادي حقيقي، إذا أعيد توزيعها بعيدا عن حصر الجزء الأكبر منها في الصناعات العسكرية.
كما أن برنامج الخصخصة الروسي لا يزال يواجه كثيرا من المشكلات في ضوء ما يصفه البعض بانحياز القيادة السياسية لعدد محدد من كبار رجال الأعمال ومنحهم تسهيلات خاصة، ما يبعد السوق الروسي عن قواعد المنافسة الاقتصادية الحقيقية، وارتباط ذلك بمنظومة ضخمة من الفساد السياسي والإداري والمالي.
وخلال مناقشة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لميزانية العام المقبل مع حكومته، أشار إلى أن العجز الحكومي لا يجب أن يزيد على 3 بالمئة، إلا أن كثيرا من الاقتصاديين يشككون في قدرة موسكو على تحقيق ذلك، خاصة إذا ما واصل النفط تراجعه، واتسع نطاق التدخل العسكري في سورية وما يرتبط به من زيادة الإنفاق العسكري الروسي.
روب ريدل الصحفي البريطاني والمراسل السابق لصحيفة الفايننشال تايمز في موسكو لعدة سنوات قال إن روسيا ستواجه تحديات خطيرة العام المقبل، مؤكدا أن بوتين ورغم الضائقة المالية الروسية نتيجة تراجع أسعار النفط والمعادن، كان حريصا دائما على منح امتيازات مالية سواء عبر الضرائب أو غيرها من وسائل الإسناد الاجتماعي للطبقة المتوسطة والعاملة، إلا أن زيادة الإنفاق العسكري سيجعل من الصعب عليه الحفاظ على مواصلة منح هذه الامتيازات.
وأشار ريدل إلى أن الهدف الأساسي للسلطات الروسية هو «توازن الميزانية» ولتحقيق ذلك في ظل الظروف الراهنة، فإنه يتعين على الكرملين اتباع سياسات تقشفية حتمية، لأن جزءا أكبر من الإنفاق العام سيوجه الآن للنشاط العسكري.
وتوقع ريدل أن يشهد عام 2016 انخفاضا للأجور الحقيقية في روسيا، وسيظل التساؤل هو ما الجهات التي ستشهد استقطاعات في الميزانية؟ وأعتقد أن الخاسر الأكبر سيكون المشاريع والبرامج الاستثمارية، أما الإنفاق الاجتماعي وضمان مواصلة الطبقة المتوسطة دعمها لبوتين، فسيتم الحفاظ عليه اسميا لكنه سيتقلص في قيمته الحقيقية.
واستدرك ريدل قائلا، إن علينا أن نتذكر أن السيناريو الروسي مبني على أساس أسعار نفط تراوح بين 50 و55 دولارا للبرميل، فإذا انخفضت عن ذلك، فإن الأزمة الاقتصادية الروسية ستزداد حدة، وهذا قد يدفع موسكو إلى أن تكون أكثر حدة في مواقفها في الداخل والخارج.