- يستطيع كل باحث عن تاريخ الاستشراق أن يتبين أن الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق ودعم الدراسات الإسلامية والعربية في أوروبا
- حتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن الاستشراق قد حرر نفسه من أسر الخلفية الدينية التي اشتق منها أصلاً إلا بدرجة ضئيلة
- الهدف الديني للاستشراق كان يسير منذ البداية في اتجاهات ثلاثة متوازية تعمل معاً جنباً إلى جنب وهي محاربة الإسلام وحماية النصارى والتبشير 
- نجيب العقيقي: الدافع العلمي كان وراء كل الجهود الاستشراقية
- برنار لويس :لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين
- رودي بارت يرى أن الدافع العلمي في الحركة الاستشراقية بدا أظهر ما يكون اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر
- إذا كان الهدف الديني لم يعد ظاهراً الآن في الكثير من الكتابات الاستشراقية فليس معنى ذلك أنه قد اختفى تماماً
- د.زقزوق: الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق ودعم الدراسات الإسلامية ومن الصعب على معظم المستشرقين النصارى المشتغلين بدراسة الإسلام أن ينسوا أنهم يدرسون ديناً ينكر عقائد أساسية في النصرانية 

هناك فريق من المستشرقين حاول جاهداً الحياد والموضوعية وأنكر على كثير من زملائه نزواتهم التي انحرفت بهم عن النزاهة العلمية

 
نستكمل في هذا العدد نشر كتاب “ “الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري” لوزير الاوقاف المصري الاسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق :

اهداف المستشرقين

بعد أن تعرفنا على طرف من أعمال المستشرقين يستبد العجب ببعضنا وتعتريه الدهشة لموضوع الاستشراق ويتساءل : ما الذي يدعو الباحث الغربي إلى بذل كل هذا الجهد والعمر والمال في دراسة عالم غريب عنه .. يدرس لغاته التي تختلف تماماً عن لغته، ويحاول جاهداً فهم آدابها وعقائد أهلها وتاريخهم ؟ 
 
ما الذي يحمله على ذلك وقد كان في وسعه أن يوجه كل تلك الجهود لدراسة مجالات أوروبية أخرى يمكن أن تظهر فيها مواهبه وإمكاناته الفكرية من ناحية، ومن ناحية أخرى تكون أكثر فائدة له من الناحية العلمية ؟ وكما يقول نجيب العقيقي : 
 
(فلو أن أحدهم انصرف طوال حياته إلى حل الكلمات المتعارضة، أو جمع طوابع البريد النادرة، أو كتابة القصص البوليسي، بدل التحقيق والترجمة والتصنيف، لخرجت به من تلك الجزائر المتعددة التي يعيش فيها المستشرقون إلى العالم الرحب في القرن العشرين، ولعادت عليه برخاء من العيش وشهرة بين الناس وسلامة من النقاد )  
ويعتقد نجيب العقيقي أن الدافع العلمي كان وراء كل الجهود الاستشراقية. والعقيقي ـ على الرغم من أنه عربي ـ يعتبر نفسه واحداً من المستشرقين. فقد صنف نفسه في كتابه ( المستشرقون ) تحت عنوان المدرسة المارونية بوصفه واحداً من أتباع هذه المدرسة التي أسهمت بجهودها في مجال الاستشراق.
 
ولكن المستشرق الألماني المعاصر ( رودي بارت ) يرى أن الدافع العلمي في الحركة الاستشراقية بدا أظهر ما يكون اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر. ويعني هذا في رأيه أن معظم الكتابات الاستشراقية قبل ذلك كان ينقصها الطابع العلمي. يقول ( بارت ) : 
 
( إننا في دراستنا لا نسعى إلى نوايا جانبية غير صافية، بل نسعى إلى البحث عن الحقيقة الخالصة .
ولكن الأمر بالرغم من ذلك ليس أمراً عادياً أو من قبيل المصادفة .. فاتجاه الأوروبيين لدراسة الشرق وإقامة مؤسسة ضخمة لذلك هي مؤسسة الإستشراق لابد أن تكون وراءه أهداف معينة . 
ويستطيع كل باحث عن تاريخ الاستشراق أن يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق ودعم الدراسات الإسلامية والعربية في أوروبا، وقد صاحب الاستشراق طوال مراحل تاريخية، ولم يستطع أن يتخلص منه بصفة نهائية. وحتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن الاستشراق قد حرر نفسه من إسار الخلفية الدينية التي اشتق منها أصلاً إلا بدرجة ضئيلة. 
 
والهدف الديني للاستشراق كان يسير منذ البداية في اتجاهات ثلاثة متوازية تعمل معاً جنباً إلى جنب، وتتمثل هذه الاتجاهات فيما يأتي :
 
1 - محاربة الإسلام والبحث عن نقاط ضعف فيه، وإبرازها والزعم بأنه دين مأخوذ من النصرانية واليهودية، والانتقاص من قيمه والحط من قدر نبيّه .. إلخ . 
2 - حماية النصارى من خطره بحجب حقائقه عنهم، وإطلاعهم على ما فيه من نقائص مزعومة، وتحذيرهم من خطر الاستسلام لهذا الدين. 
 3 - التبشير وتنصير المسلمين . وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق.
 
وقــدكان قرار( فيينا) الكنسي في 1312م وقرار إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعة كامبردج بعد ذلك بأكثر من ثلاثة قرون، وتأسيس مجلة العالم الإسلامي The Muslim World عام 1911م عن طريق صمويل زويمر رئيس المبشرين في الشرق الأوسط، والذي تُوفي في أوائل الخمسينيات من القرن الحالي ـ كانت هذه بعض الشواهد الظاهرة في اتجاه خدمة الهدف الديني والعمل من أجله في محيط الاستشراق .
وإذا كان الهدف الديني لم يعد ظاهراً الآن في الكثير من الكتابات الاستشراقية فليس معنى ذلك أنه قد اختفى تماماً. إنه لا يزال يعمل من وراء ستار بوعي أو بغير وعي . فمن الصعب على معظم المستشرقين النصارى ـ المشتغلين بدراسة الإسلام ـ وأكثرهم متدينون، أن ينسوا أنهم يدرسون ديناً ينكر عقائد أساسية في النصرانية ويهاجمها ويفندها مثل عقيدة التثليث وعقيدة الصلب والفداء، كما أنه من الصعب عليهم أيضاً أن ينسوا أن الدين الإسلامي قد قضى على النصرانية في كثير من بلاد الشرق وحل محلها . 
 
ونحن إذ نسجل ذلك فإننا ننبه في الوقت نفسه إلى أن ذلك ليس حكماً عاماً على جميع المستشرقين . فهناك فريق من المستشرقين قد حاول جاهداً الالتزام بالحيدة والموضوعية وأنكر على كثير من زملائه نزواتهم التي انحرفت بهم عن النزاهة العلمية، وهناك من أنصف في جانب وتحامل في جانب آخر . 
 

يقول مونتجمري وات ): 

( جد الباحثون منذ القرن الثاني عشر في تعديل الصورة المشوهة التي تولدت في أوربا عن الإسلام. وعلى رغم الجهد العلمي الذي بذل في هذا السبيل، فإن آثار هذا الموقف المجافي للحقيقة التي أحدثتها كتابات القرون المتوسطة في أوروبا لا تزال قائمة. فالبحوث والدراسات الموضوعية لم تقدر بعد على اجتنابها ) . 
ويقول ( برنار لويس ) : 
 
(لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية).
 
ويقول ( نورمان دانييل ) : 
( على الرغم من المحاولات الجدية المخلصة التي بذلها بعض الباحثين في العصور الحديثة للتحرر من المواقف التقليدية للكُتَّاب النصارى من الإسلام فإنهم لم يتمكنوا أن يتجردوا منها تجرداً تاماً ) . 
ولكن الهدف الديني لم يكن هو كل شيء ، فقد كانت هناك أيضاً أهداف أخرى للاستشراق تقترب أو تبتعد من الهدف الديني. ومن هذه الأهداف ما يأتي: 
 

1 - أهداف علمية: 

وقد كانت مقصد بعض من ظهروا في عصر التنوير في أوروبا ، فمنهم من قرأ الكتب الدينية وفحصها وأدرك أن رسالة الإسلام قريبة من الرسالات السماوية ومؤيدة لما جاء في كتبها من إيمان با لله وكتبه ورسله ودعوة إلى الحق والخير والصلاح . ولكن هؤلاء كانوا قلة . 

2 - أهداف تجارية : 

وقد ظهرت تلك الأهداف التجارية في عصر ما قبل الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين . فقد كان الغربيون مهتمين بتوسيع تجارتهم والحصول من بلاد الشرق على المواد الأولية لصناعاتهم التي كانت في طريقها للازدهار. ومن أجل هذا وجدوا أن الحاجة ماسة للسفر إلى البلاد الإسلامية، والتعرف عليها ودراسة جغرافيتها الطبيعية والزراعية والبشرية، حتى يحسنوا التعامل مع تلك البلاد، وتحقيق ما يصبون إليه من وراء ذلك من تحقيق فوائد كثيرة تعود على تجارتهم وصناعتهم بالخير العميم . 
 
ولذلك كانت المؤسسات المالية والشركات وكذلك الملوك في بعض الأحيان يزودون الباحثين بما يحتاجون إليه من مال، كما كانت الحكومات المعنية تمنحهم الرعاية والحماية .  ونظراً لأهمية الدين وتأثيره الفعال في الأخلاق والمعاملات فقد اتجه هؤلاء الباحثون لدراسته وكتابة التقارير وتأليف الكتب عنه .  ولكن هذه الطائفة كانت أيضاً قلة مثل الطائفة السابقة . 

3 - أهداف سياسية : 

ظهرت تلك الأهداف السياسية واضحة جلية واتسع مداها باتساع رقعة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. واضطرت الدول الاستعمارية أن تعلم موظفيها في المستعمرات لغات تلك البلاد، وأن تدرس لهم آدابها ودينها ليعرفوا كيف يسوسون هذه المستعمرات ويحكمونها. وقد اتجهوا في هذه المرحلة إلى العناية باللهجات العامية والعادات السائدة كما عنوا بالدين والشريعة .