- اليهود لم يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين حتى لا يعزلوا أنفسهم وبالتالي يقل تأثيرهم ولهذا عملوا بوصفهم أوروبيين وبذلك كسبوا مرتين
- البهي: اليهود أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية وسياسية من خلال التشكيك بالإسلام وإثبات فضل اليهودية عليه ثم خدمة الصهيونية فكرة ودولة 
- المستشرق أوليريشن هارمان عن استغلال الغرب للاستشراق : هناك ضغط ملح من الذين يقدمون الأموال لدعم النتائج التي تؤدي إلى احتواء العالم العربي الإسلامي والتشبث به باعتباره منطقة اضطراب حيث تكمن اهتمامات الغرب ومصالحه
- ليس هناك أي بارقة تلوح في الأفق توحي بأن الغرب على استعداد للتخلي عن هذه المصالح وبالتالي فإن الحاجة إلى الاستشراق في الغرب ستظل قائمة بل وستزداد إلحاحا
- انحسار المد الاستعماري العسكري عن العالم الإسلامي لا يعني القضاء على الحركة الاستشراقية.. فهناك مستشرقون لم يرتبطوا بالاستعمار 
- أهم ما يؤخذ على الاستشراق من وجهة النظر الإسلامية هو تمسك المستشرقين بالأساليب البالية والروح العدائية التي تحملها دراساتهم حول الإسلام

 
 في هذا العدد نستكمل نشر كتاب “ “الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري” لوزير الاوقاف المصري الاسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق :

اليهود والاستشراق

لقد اتضح لنا مما تقدم أنه قد كانت هناك أسباب معينة على مر العصور دفعت بالباحثين الغربيين النصارى إلى الاستشراق، وحملتهم على تحقيق أهداف معينة رسموها لأنفسهم سواء أكانت هذه الأهداف أهدافاً علمية أم غير علمية. وهنا يمكن لسائل أن يسأل :
 
ما هي الأسباب التي دفعت بعض اليهود إلى الإقبال على الاستشراق .. وما الدور الذي قاموا به في إطار الحركة الاستشراقية ؟ .
 
والإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، فمن الصعب الحصول على إجابة صريحة في هذا الصدد، وذلك لأن المراجع التي تتحدث عن الاستشراق وتطوره قد أغفلت الحديث عن هذا الجانب. ونعتقد أن سبب إغفال الحديث عن هذا الموضوع يرجع إلى أن المستشرقين اليهود قد استطاعوا أن يكيفوا أنفسهم ليصبحوا عنصراً أساسياً في إطار الحركة الاستشراقية الأوروبية النصرانية. فقد دخلوا الميدان بوصفهم الأوروبي لا بوصفهم اليهودي . وقد استطاع ( جولد تسيهر) في عصره ـ وهو يهودي مجري ـ أن يصبح زعيم علماء الإسلاميات في أوروبا بلا منازع، ولا تزال كتبه حتى اليوم تحظى بالتقدير العظيم والاحترام الفائق من كل فئات المستشرقين . 
 
وهكذا لم يرد اليهود أن يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين يهود حتى لا يعزلوا أنفسهم وبالتالي يقل تأثيرهم. ولهذا عملوا بوصفهم مستشرقين أوروبيين، وبذلك كسبوا مرتين: كسبوا أولاً فرض أنفسهم على الحركة الاستشراقية كلها، وكسبوا ثانياً تحقيق أهدافهم في النيل من الإسلام، وهي أهداف تلتقي مع أهداف غالبية المستشرقين النصارى.
 
ويشير الأستاذ الدكتور محمد البهي رحمه الله في كتابه(الفكر الإسلامي الحديث) إلى ملاحظة لبعض الباحثين حول تفسير إقبال اليهود على الاستشراق . وتتلخص هذه الملاحظة في أنهم أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية وسياسية. أما الأسباب الدينية فإنها تتمثل في محاولة إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمه بإثبات فضل اليهودية عليه، وذلك بإدعاء أن اليهودية في نظرهم هي مصدر الإسلام الأول. أما الأسباب السياسية فإنها تتصل بخدمة الصهيونية فكرة أولاً ثم دولة ثانياً . 
 
ويرى الدكتور البهي أن وجهة النظر هذه على الرغم من أنها لا تعتمد على مصدر مكتوب يؤيدها، فإن الظروف العامة والظاهرة المترادفة في كتابات هؤلاء المستشرقين تعزز وجهة النظر هذه وتضفي عليها بعض خصائص الاستنتاج العلمي.
ونحن في الواقع لسنا في حاجة إلى دليل لإثبات كراهية اليهود للإسلام ، وذلك لأن هذه الكراهية قد ظهرت واضحة كالشمس منذ ظهور الإسلام . وقد أكد القرآن ذلك في قوله تعالى : 
(لتجدنَّ أَشدَّ الناسِ عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ..) (المائدة : 82) . 
وقد ظل اليهود طوال تاريخهم يتحينون كل فرصة متاحة ليكيدوا للإسلام والمسلمين. وقد وجدوا في مجال الاستشراق باباً ينفثون منه سمومهم ضد الإسلام والمسلمين، فدخلوا هذا المجال مستخفين تحت رداء العلم، كما وجدوا في الصهيونية باباً آخر يفرضون منه سيطرتهم على العرب والمسلمين.

مستقبل الاستشراق

وفي ختام هذا الفصل تبرز أمامنا بعض الأسئلة الملحة حول مستقبل الاستشراق: هل لا يزال الاستشراق يعيش الآن عصر ازدهاره، أم أن نجمه بدأ يأفل وتأثيره بدأ يقل ونشاطه بدأ يتضاءل.. وخاصة بعد أن انحسر المد الاستعماري عن العالم الإسلامي؟ أين يقف الاستشراق الآن في العصر الحاضر؟ 
 
ما موقف الحكومات الأوروبية اليوم من دعم النشاط الاستشراقي ؟ إن طرح هذه الأسئلة له ما يبرره. فهناك بالفعل وجهات نظر تتحدث عن نهاية الاستشراق .  وهناك من ناحية أخرى انتقادات واتهامات كثيرة موجهة إلى الاستشراق من جهات عديدة، وإن اختلفت منطلقات هذه الانتقادات ، فمثلاً يقول أحد الساسة الألمان : 
 
« لقد آن الأوان كي يبتعد المستشرقون باهتماماتهم عن اللهجات العربية، ويعدوا أنفسهم لتقبل الدور الجديد كطاقة فاعلة في خدمة العلوم الاجتماعية، وكاحتياطيين للقيام بمهمة الترجمة والشرح في ميادين العمل المختلفة». 
 
والمستشرقون وإن كانوا يرفضون دورهم إلى هذا المستوى فإنهم يعترفون في الوقت نفسه بالقصور في جوانب مختلفة هي أيضاً مثار انتقادات عنيفة. ويجمل ( أوليريشن هارمان) هذه الانتقادات فيقول: 
 
« لقد اتهمنا بأننا متخلفون واقل تطوراً وتقدماً في أساليبنا، لا ننفعل حيال التحديات الجديدة. واتهمنا كذلك بأننا وصفيون نقليون ولسنا تحليليين ، وإذا كنا نقدر أنفسنا حق التقدير، فما علينا سوى الاعتراف بأن هذا النقد صحيح إلى حد بعيد « .
ولكن أهم ما يؤخذ على الاستشراق من وجهة النظر الإسلامية هو تمسك المستشرقين بالأساليب الاستشراقية البالية في فهم الإسلام وتناوله، والروح العدائية التي تحملها دراساتهم حول الإسلام، تلك الروح التي لا تزال مسيطرة على غالبية علماء الإسلاميات من المستشرقين ـ وسنتعرف على بعض النماذج من دراساتهم الإسلامية في الفصل الثاني من هذا الكتاب ـ وهذه الروح العدائية هي العقبة الكأداء التي تجعل العربي المسلم يقف من الاستشراق موقف الحذر المتشكك، بل موقف الرافض للاستشراق . فهل لدى المستشرقين استعداد لتطوير أساليبهم البالية فـي دراسة الإسلام والالتزام بالحيدة والموضوعية والنزاهة العلمية ؟ .
 
إن هناك بعض المؤشرات نحو الاقتراب من الاعتدال والاتزان في معالجة بعض المسائل الإسلامية لدى بعض المستشرقين المعاصرين من أمثال : مكسيم رودنسون، وجاك بيرك، وأنا ماري شمل، على سبيل المثال لا الحصر، وهو اتجاه نقدره ونرجو أن يصبح في النهاية تياراً عاماً، وعندئذ يمكن أن يسهم في دعم روح التفاهم والقضاء على الروح العدائية الني استمرت قروناً عديدة . 
 
أما الحديث عن قرب نهاية الاستشراق فلست أظن أن مثل هذه النهاية وشيكة الحدوث. فالمسألة ليست بهذه البساطة، ولا يمكن القول بأن الحركة الاستشراقية بدأت تنحسر وأنها تعيش آخر أيامها. فالحركة لا تزال متماسكة وقوية ومنظمة، ولا تزال جمعيات المستشرقين ومؤتمراتهم المختلفة تمارس نشاطها ، ومعاهد الاستشراق منتشرة اليوم في أغلب الجامعات الأوروبية والأمريكية. هذا فضلاً عن تغلغل المصالح الغربية في بلدان العالم الإسلامي، وخاصة في بلاد الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل هذه المصالح تساند الحركة الاستشراقية التي تقدم بدورها للجهات المعنية في الغرب الدراسات المختلفة عن بلدان العالم الإسلامي. وبالإضافة إلى ذلك كله فإن مجالات التخصص لدى المستشرقين قد تعددت وهذا يعني إثراء الدراسات الاستشراقية لا القضاء عليها . 
 
ولكن الشيء المهدد بالزوال ـ كما يقول رودنسون ـ هو سيطرة الدراسات الفيلولوجية ( فقه اللغة). فقد كان هناك اتجاه سائد في الحركة الاستشراقية لفترة تزيد على قرن من الزمان يركز على التدريب الفيلولوجي بوصفه كافياً لحل جميع المشاكل الناشئة ضمن ميدان لغوي محدد . 
 
وهناك دلائل تشير إلى التخلي عن هذا الاعتقاد، وذلك نظراً للزيادة الكبيرة في المعلومات المتوفرة، بالإضافة إلى تعدد أدوات البحث وتقدم طرق الدراسة، الأمر الذي أصبح يمكن الباحث من تجاوز المرحلة الفيلولوجية أو على الأقل يخصص لها وقتاً أقل من ذي قبل . فقد كشف التقدم في العلوم الاجتماعية « عن مدى تعقيد المشاكل التي لا يمكن حلها بالالتجاء إلى الفهم العادي السليم وحده، وبالمعرفة العميقة باللغة، بل ربما أيضاً لا يمكن حلها عن طريق استلهام مبادئ فلسفية عامة. لذا فقد أصبحت الدراسات الشرقية وبصورة خاصة الدراسات الإسلامية أكثر صعوبة وأقل خصوصية ، واصبح الربط بينها وبين العلوم الأخرى ـ الذي كان ترفاً فيما مضى ـ حاجة لا مفر منها الآن».
ويعني رودنسون بالعلوم الأخرى هنا، علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والانثربولوجيا والسكان الخ .
ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أنه قد عقدت ندوة عن علم الاجتماع الإسلامي في بروكسل عام 1961م. وهذا أمر يبين لنا بداية انفتاح مجالات جديدة أمام الدراسات الاستشراقية كانت مهمله تماماً في السابق .  وهكذا يمكن القول بأن انحسار المد الاستعماري العسكري عن العالم الإسلامي لا يعني بالتالي القضاء على الحركة الاستشراقية. فالاستعمار العسكري كان مرحلة ارتبطت بها من غير شك جهود طائفة من المستشرقين . ولكن هناك طائفة أخرى لم ترتبط بالاستعمار، وليس يعني ذلك بالضرورة أنها كانت منصفة للإسلام والمسلمين . 
وقد عاش الاستشراق عصر ازدهاره في النصف الثاني من القرن الماضي، والنصف الأول من هذا القرن ( صدر الكتاب في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين) .. وشهدت تلك الفترة جيل العمالقة من المستشرقين. وقد ظهرت الآن أجيال جديدة تسير على الدرب نفسه وتترسم خطى السابقين . 
 
وتهتم الحكومات الأوروبية بدعم الحركة الاستشراقية في أوروبا، ولا تبخل عليها بالمال اللازم لاستمرار نشاطها . 
يقول ( رودي بارت ) : 
 
( الاستشراق في ألمانيا حالياً وفي العالم الأوروبي الحديث كله مادة علمية معترف بها من الجميع .. نعترف شاكرين بأن المجتمع ممثلاً في الحكومات والمجالس النيابية يضع تحت تصرفنا الإمكانات اللازمة لإجراء بحوث الاستشراق وللحفاظ على نشاطنا التعليمي في هذا المضمار .. وما تطلبه الدولة والمجتمع مناـ معشر المستشرقين ـ هو بصفة عامة العمل كمدرسين وباحثين متخصصين. . أما التصرف في أمر الموضوعات الخاصة التي ينصب عليها الدرس والبحث فمتروك لنا ) . ولكن هناك مستشرقاً آخر يعترف بأن مقدمي الدعم المالي يمارسون ضغوطاً على الاستشراق، الأمر الذي يتناقض مع ما يقوله ( بارت) من أن الحكومات التي تقدم الدعم لا تتدخل في أمر البحوث الاستشراقية . 
 
يقول ( أوليريش هارمان ) : 
(… وطبعاً هناك أيضاً الضغط الملح من قبل أولئك الذين يقدمون الأموال لدعم النتائج التي تؤدي إلى احتواء العالم العربي الإسلامي والتشبث به، باعتباره منطقة اضطراب، حيث تكمن اهتمامات الغرب ومصالحه ). 
فهناك إذن ارتباط وثيق بين مصالح الغرب واهتماماته ودعم الحركة الاستشراقية. وهذا أمر يجعل استمرار الاستشراق متوقفاً على استمرار الدعم المالي الذي تقدمه الحكومات والهيئات المختلفة، واستمرار الدعم المالي يتوقف على مدى تشبث الغرب بمصالحه في العالم العربي والإسلامي ، والتشبث بهذه المصالح حقيقة واقعة تؤكدها جميع الشواهد. ليس هناك أي بارقة تلوح في الأفق توحي بأن الغرب على استعداد للتخلي عن هذه المصالح. وما دام الأمر كذلك فإن الحاجة إلى الاستشراق في الغرب ستظل قائمة، بل وستزداد إلحاحاً .