اشتهرت الأسماك بأنها حمقاء وكثيرة النسيان، رغم أنها في الحقيقة يمكنها العد واجتياز المتاهة بل وحتى تذكر الأوجه.
طالما وصفت الأسماك بأنها ضعيفة الذاكرة، مثل "دوري"، في فيلم "البحث عن نيمو"، التي تنسى الأشياء في غضون لحظات، وأنها تكاد لا تفعل شيئا سوى السباحة في المياه هائمة على وجهها حتى يلتهمها أحد الكائنات الأخرى.
ولكن هذه الكائنات الملساء في الحقيقة لا تقل ذكاء عن القرود في بعض النواحي، إذ أن الأسماك يمكنها أن تتذكر التفاصيل لعدة سنوات، كما أنها تقدّر الحيز المحيط بها أفضل مما يقدره البشر.
وما يدعو إلى الحيرة، أن الكثير من الناس ينظرون إلى الأسماك كلها، على اختلاف أشكالها وسلوكها في الماء، على أنها محدودة الذكاء، رغم أن أنواع الأسماك في المحيطات تقدر بنحو 250 ألف نوع.
وربما ترسخت هذه الفكرة بسبب تحيز لا شعوري تجاه الأسماك مصدره أراء بالية عن تطور الأسماك.
ويرى كالام براون، الأستاذ المشارك بجامعة ماكويري بأستراليا، ونائب رئيس تحرير دورية "علم الأحياء السمكية"، أن الكثيرين يسيئون تقدير ذكاء السمك لأنهم يعتقدون أن الأسماك كائنات بدائية لم تتطور. ويتابع: "في الحقيقة، أغلب الأسماك التي تعيش على كوكب الأرض الآن تطورت في نفس الوقت تقريبا الذي تطور فيه البشر".
ولعلنا نقلل لا شعوريا من شأن القدرات المعرفية للأسماك لأنها تعيش في بيئة تختلف عن بيئتنا، أو بسبب معتقدات خاطئة رسختها الأفلام في أذهاننا عن ضعف ذاكرة الأسماك، أو ربما نفترض أن الأسماك غبية حتى لا نشعر بوخز الضمير ونحن نلتهم شطيرة محشوة بالسمك.
وفي فيلم "البحث عن نيمو"، تقول دوري، سمكة التانغ الزرقاء كثيرة النسيان لنيمو: "أعاني من فقدان للذاكرة قصيرة المدى. فأكاد أنسى كل شيء على الفور." لكن خبراء السلوك الحيواني دحضوا الفكرة التي تشكلت في أذهان الكثيرين عن أن ذاكرة الأسماك لا تدوم لأكثر من ثلاث ثوان.
إذ أثبت الباحثون أن السمكة الذهبية يمكنها تذكر الأشياء لثلاثة شهور، ويمكنها أيضا أن معرفة الوقت، بطريقة بدائية. ففي دراسة أجريت عام 1994، درب الباحثون السمكة الذهبية على دفع رافعة صغيرة تعمل لمدة ساعة واحدة فقط في مقابل مكافأة. وتعلم السمك الاستفادة من هذه الفرصة ليُبرهن على قدرته على مراقبة الوقت والتعلم والتذكر.
وهذه النتيجة لن تثير استغراب مربي الأسماك الذهبية، الذين يلاحظون أن أسماكهم تصعد إلى سطح الماء طلبا للطعام. ويقول فيل غي، من جامعة بليموث البريطانية، ومُعد الدراسة، إن قدرة الأسماك على ترقب الطعام تميزها عن سائر الكائنات وتدل على أن بعض الصفات قد تطورت لديها مع مرور الزمن.
ويقول براون إن الكثير من الأسماك لديها القدرة على استرجاع التفاصيل التي مرّ عليها وقت طويل. ووفقا لدراسة نشرها براون عام 2001، فإن سمك قوس القزح المرقط باللون القرمزي يمكنه ،على سبيل المثال، تذكر الطرق التي يمكنه من خلالها الهروب من المخاطر لمدة 11 شهرا.
ويتابع براون: "أغلب القدرات المعرفية لهذه الأسماك لا تقل كفاءة عن القدرات المعرفية لأكثر الحيوانات البرية، بل وتفوقها في الكثير من الحالات."
ووفقا لدراسة نشرت في فبراير/ شباط 2017، تستطيع أسماك الغابي أن تخرج من متاهة مكونة من ستة تقاطعات متتالية. وفوق ذلك، بعد خمسة أيام من التدريب، استطاعت أسماك الغابي، التي يُقبل الناس على تربيتها في المنازل، أن تُحسّن من سرعتها في الخروج من المتاهة وتقلل من أخطائها.
ويقول تيرون لوكون كسيكاتو، من جامعة بادوفا بإيطاليا، إن أداء الأسماك كان مدهشا، ويقترب من مستوى أداء الفئران. ويتابع كسيكاتو: "من المتوقع أن تنجح القوارض في مهام مشابهة لأنها تكيفت مع الحياة في الجحور التي تشبه المتاهة، على عكس الأسماك التي تعيش في المعتاد في بيئات مختلفة تماما، ومن لم يكن من التوقع أن تتعلم الأسماك الخروج من المتاهة بهذه السرعة".
ويقول كسيكاتو ، إن أسماك الغابي ربما طورت قدراتها في التعرف على المسالك لأنها، إذا تُركت خارج الأحواض، ستعيش في جداول الأنهار المليئة بالعوائق.
وتوصلت دراسة أجريت عام 2016، إلى أن الأسماك، كشأن الثدييات، لديها قدرة هائلة على إدراك الحيز أو المكان، إذ تستقبل المعلومات الحسية مثل ضغط الماء الساكن (الهيدروستاتي) لتتعرف على موقعها في حيز ثلاثي الأبعاد.
تقول تيريزا بيرت دي بيريرا من جامعة أوكسفورد إن الأسماك يمكنها أن تتعرف على الحيز ثلاثي الأبعاد، في الوقت الذي يواجه فيه الكثير من الحيوانات التي تعيش على الأرض، ومن بينها الإنسان، بعض المشاكل في البعد الرأسي. وعلى عكس الفئران، تستطيع الأسماك أن تقيّم المسافة الرأسية بدقة.
ويقول براون إن الأسماك تمتاز عن البشر بقدرتها على تقدير العمق.
وثمة دليل غير مؤكد على أن الأسماك لديها ما يشبه "خلايا المكان" التي اكتشفت لدى الفئران في "منطقة الحصين" في الدماغ، وهي عبارة عن خلايا عصبية تنشط حين يشغل الحيوان مكانا محددا في بيئته. وتنشط خلايا المكان المختلفة في مواضع مختلفة، ولهذا تعد أساس الخريطة العصبية للفراغ المكاني لدى الثدييات.
وتوجد لدى الأسماك "خلايا لتحديد المكان" في منطقة من أدمغتها تقابل منطقة الحصين لدى البشر، وربما تستعين بها الأسماك لبناء ذاكرة للفراغ من حولها.
وإلى جانب قدرة الأسماك على التعرف على المسار الصحيح، فإن الأسماك يمكنها استخدام الأدوات، وهي مهارة كانت تُنسب عادة للبشر دون غيرهم.
تهاجم أعداد كبيرة من الأسماك البحرية ذات الألوان الزاهية التي تُسمى سمك اللبروس أو "الراس" حيوان قنفذ البحر لتكسيره بالاستعانة بالصخور حتى تحصل على ما بداخله من لحم. وتُلصق أسماك "سيكلد" التي تعيش في أمريكا الجنوبية و"أسماك السلور المدرع" بيضها بأوراق الشجر والصخور الصغيرة لتنقل فيه بيضها إذا ما تعرضت أعشاشها التي تبنيها من الفقاعات للتهديد، بحسب ورقة بحثية أعدها براون عام 2012.
ولعل أغرب طريقة تستخدم بها الأسماك الأدوات هي طريقة السمك "رامي السهام" أو "القناص" في استخدام الماء كأداة أو سلاح، كما يقذف البشر الكرة، إذ تقذف السمكة دفقة من الماء من فمها، مثل مسدس الماء، لتُصيب الحشرات فوق سطح الماء، وتستعين في ذلك بانكسار الضوء.
وقد برهن ستيفان شوستر، من جامعة بيروث الألمانية، الذي لديه خبرة عريضة في دراسة السمك رامي السهام، على أن صغار هذه الأسماك تتعلم طرق الصيد المعقدة بمراقبة الأسماك الأكثر خبرة في الصيد، رغم أنها ليس لديها منطقة في الدماغ تقابل القشرة المخية التي ترتبط بالرؤية لدى الثدييات.
وبعد أن يُطلق هذا النوع من الأسماك دفقة المياه ويُصيب هدفه، يُحدد المكان الذي سيسقُط فيه طعامه، ليلتقطه بأقصى سرعة ممكنه قبل خصومه، وكل هذا في وقت لا يتجاوز 40 ميلي ثانية. ويقول شوستر: "أهم ما يميز هذه القرارات أنها تربط بين السرعة واتخاذ خطوات معقدة".
يؤدي هذا السمك رامي السهام عمليات حسابية لتحديد مسار الماء المقذوف لبلوغ الهدف، وهذا يُعد ضربا من العمليات الرياضية في صورتها الفطرية تُضاهي قدرة لاعب الكرة الجيد على تمرير الكرة بسرعة وبدقة وتوقع المكان الذي سيتلقى فيه اللاعب الآخر الكرة، من دون الاجتهاد في تقدير المسارات المنحنية للأجسام المتحركة.
كما يمكن للسمك رامي السهام تمييز أوجه البشر، وهي المهمة التي كانت تنفرد بها الرئيسيات.
وتوصلت دراسة أجريت عام 2016، إلى أن الأسماك يُمكنها التعرف على وجه مألوف من بين مجموعة من 44 وجها. وقد درب الباحثون السمك على تمييز الوجه المألوف بإطلاق دفقة من الماء، واكتشفوا أنها استطاعت التمييز بدقة بمعدل 89 في المئة من المرات.
وتقول كيت نيوبورت، من جامعة أوكسفورد، والتي أعدت الدراسة إن "قدرة السمك رامي السهام على تعلم هذه المهمة تدل على أن التعرف على وجوه البشر لا يتطلب بالضرورة أدمغة معقدة".
ويقول فيل غي، من جامعة بليموث، إن السمكة الذهبية ربما لديها القدرة على تمييز وجه مربيها، رغم أن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى أدلة تُثبت هذه القدرة، فضلا عن أن الأسماك الذهبية التي لا تُربى في الأحواض، تعيش في مياه مظلمة، ولهذا فهي لا تعتمد على الرؤية مثلما يعتمد عليها السمك رامي السهام.
وفي دراسة أخرى أجريت عام 2013، توصل باحثون إلى أن أفراد من أسماك الغابي المولودة حديثا يمكنها اختيار المجموعة التي تحتوي على عدد أكبر من النقاط من بين مجموعتين.
ويقول كريستيان أغريلو من جامعة بادوفا، ومُعد الدراسة إن "قدرة صغار الأسماك على تعلم التمييز بين مجموعتين غير متساويتين، إنما يؤكد أن المهارات العددية، أو البعض منها على الأقل، تظهر منذ الولادة".
وتمثل قدرة الأسماك على تقييم الأعداد أهمية لبقائها، إذ أن الأسماك تتفادى الضواري في المعتاد بالانضمام إلى أسراب ضخمة من الأسماك. وأوضحت دراسات عديدة أن الأسماك تفضل الانضمام إلى الأسراب ذات الأعداد الأكبر من الأسماك، إذا وضعت في بيئة مجهولة.
ويرى أغريلو أن الأسماك لا تقل براعة عن الثدييات والطيور في تقدير أعداد الجماعات الصغيرة. وإذا صح هذا الافتراض، فإن مهارات البشر العددية قد تكون أقدم مما كنا نعتقد، إذ أنها ربما تعود إلى تطور الأسماك العظمية وتميزها عن الفقاريات الأرضية قبل نحو 450 مليون عام.
وإلى جانب مهارات العد، تتعاون الأسماك مع أقرانها من نفس النوع ومن الأنواع الأخرى.
تتعاون أسماك الهامور وأسماك السلمون الرقطاء التي تعيش في الشعاب المرجانية في بعض الأحيان مع ثعبان البحر، مثل ثعبان موراي العملاق، أو الشاقة لإخراج الفريسة المختبئة في الشقوق الضيقة.
إذ تهزّ كل من أسماك الهامور والسلمون المرقط رأسها لثعبان الموراي لتدعوه لمشاركتها في صيد الفريسة.
وفي دراسة أجريت سنة 2014، أوضح علماء أحياء أن السلمون المرقط الذي يعيش في الشعاب المرجانية يتعلم بسرعة كيف يختار أفضل ثعابين البحر مهارة في الصيد. وأجرى العلماء تجربة بوضع الطعام بعيدا عن متناول السلمون المرقط، وسرعان ما أدرك السلمون أنه بحاجة إلى شريك ليعاونه في الحصول على الطعام.
وأظهرت التجربة أن السلمون المرقط ينجح على الأرجح بثلاثة أضعاف في اختيار ثعابين البحر الأكثر مهارة في الصيد في مقابل الثعابين عديمة الجدوى التي لا يمكنها مساعدته في صيد الفريسة.
ويقول ألكسندر فيل غي، من جامعة كامبردج، والذي أعد الدراسة: "هذه التجربة تؤكد أن بعض الأسماك، رغم صغر حجم دماغها، مقارنة بذوات الدم الحار، تتمتع بقدرات معرفية تضاهي قُدرات القردة أو ربما تفوقها".
وربما لا تتمتع السمكة الذهبية التي تجوب هائمة في حوض السمك بذات القدر من الذكاء، ولكن السمك رامي السهام وغيره من الأنواع ستُسهم في تغيير الفكرة الراسخة في أذهاننا عن ذكاء الأسماك. ويقول شوستر إن هذه النتيجة ستساعد أيضا في فهم المزيد عن قدراتنا المعرفية، بعد أن بات واضحا أن القدرات العقلية الفذة تطورت قبل ظهور البشر بردح من الزمان.
ويبقى السؤال: هل هذه الأدلة التي توصلنا إليها عن ذكاء الأسماك ستكفي لإقناعنا بالامتناع عن تناوله مع البطاطس المقلية؟