فاز الفيلم البولندي الشديد التميز "إيدا" بجائزة أحسن فيلم أجنبي في ترشيحات الأوسكار لهذا العام، وذلك عن أفلام عام 2014، وكان "إيدا" قد فاز من قبل بجائزة البافتا وغيرها الكثير من الجوائز، والفيلم من إخراج البولندي المتميز با&<704;ل با&<704;ليكو&<704;سكي، الذي كتب له السيناريو بالاشتراك مع الكاتبة المسرحية "ريبكا لينكي&<704;يتش" في أول سيناريوهاتها السينمائية، وبطولة أجاتا كولاشا وأجاتا تشبوخو&<704;سكا.
تدور أحداث الفيلم في مطلع الستينات، حيث نتعرف في أحد الأديرة المهيبة على الفتاة التيمة "آنا" (أجاتا تشبوخوفسكا)، في 18 من عمرها، والتي تخبرها رئيسة الراهبات بالدير بأن خالتها "&<704;اندا" (أجاتا كولاشا) لا ترغب في التواصل معها ولا حضور قَسَمِها لتصير راهبة بالدير، لكن "آنا"، التي لم تفارق الدير قط، تتوجه إلى مدينة "وودج" للقاء خالتها ربما لتتعرف عليها، وتعرف سبب رفضها وتحثها على هذا الأمر، تستقبلها خالتها على مضض وببرود وجفاء، وهناك تخبرها بحقيقتها، وهي أنها ليست مسيحية ولا تحمل اسم "آنا"، وإنما يهودية لعائلة يهودية أباً عن جد واسمها الحقيقي "إيدا"، وتسخر منها قائلة "الراهبة اليهودية".
بعد تقارب نسبي بعض الشيء بين الخالة وابنة شقيقتها، عقب نفور وصد، تنطلقان إلى حيث كان يعيش والديها بغية التعرف على حقيقة ما حدث لهما ومحاولة العثور على قبريهما أو رفاتهما وجلبه كي يدفن في مدافن ومقابر الأسرة اليهودية، وفي الطريق تحدث بعض الأمور، أهمها توصيلهما لعازف ساكسفون إلى إحدى البلدات التي سيقوم بالعزف وإحياء حفلات في فندق ما بها، ونلاحظ على إيدا بعض التعلق به، ونفس الشيء يحدث من جانب الشاب الذي يعجب بها رغم ملابس الراهبات التي ترتديها دائماً، وبالفعل، تكشفان حقيقة ما حدث، وتعيدان الرافات المدفون بإحدى الغابات ليدفن في مكانه الطبيعي بالمقابر.
جماليات الفيلم
وكتب العديد من النقاد يُشبِّهون المخرج في أسلوب تنفيذه لغير مشهد من الفيلم بالفرنسي فرانسو تريفو أو المجري بيلا تار أو الفرنسي روبير بريسون وغيرهم، بل وذهب البعض إلى أن العديد من كادراته المُقربة تستلهم الكثير من فنية السويدي القدير إنجمار برجمان.
قد يرى البعض كل هذا بالفيلم بدرجة أو أخرى أو ربما ليس موجوداً بالمرة، وأن تلك محض مقاربات نقدية تهدف لتبسيط الفيلم وأسلوب مخرجه قدر الإمكان، وبالفعل لا يستطيع المرء أن ينكر أن الرجل ربما تأثر بكل هؤلاء وأكثر، وأي فنان أصيل يتأثر وحتى ينقل عمن سبقوه من الأستاذة وليس ثمة أي عيب في هذا، لكن الأهم كما قيل هو كيف تسرق أو بالأحرى كيف تذيب كل هذا في إطار جمالياتك الفنية الخاصة وتخرج شيئاً جديداً بتناول مغاير، لأنك لو سرقت لقطة من تروفو وانتحلت أحد المشاهد من بيلا تار أو استعرت عدستك المقربة وأطلت مكوثها على الوجه من برجمان فلن يصنع هذا منك مخرجاً كبيراً ولا يجعل فيلمك فيلماً عظيماً.
بافلكوفسكي يدري على وجه التحديد وباحترافية عالية ما الذي يفعله بالضبط، سواء فيما يتعلق باختيار زواياه التصويرية أو تصميم كادراته أو بقصة فيلمه أو حتى ما يرغبه من أداء تمثيلي من جانب ممثلتيه الرائعتين، فهو على سبيل المثال، لا يهدف من قصته أن يحصرها في إطار الحرب والتنديد بالجرائم الوحشية التي ارتكبت خلالها ضد أي إنسان بما في ذلك اليهود أو المسيحيين من البولنديين أو غيرهم ولا توجيه الإدانة لهذا أو ذاك.
أهم المشاهد
آثر بافلوفسكي ألا يكون الهدف الأساسي لفيلمه، برغم أهميتها الدرامية التي تشكل قوام الفيلم وعموده الفقري، هو هوية إيدا كونها يهودية أو مسيحية على وجه التحديد، ولا حتى الرحلة في حد ذاتها أو عملية البحث الأبوين والتعرف على من قتلهم، ومن ثم دفنهما واكتشاف حقيقة ما حدث لهما، وذلك لأنه كان يهدف بمنتهى الهدوء وبنبرة غاية في الخفوت والتعقل إلى ما هو أبعد من ذلك، وقد تجلى ما يهدف إليه في أهم وأقوي مشهدين في الفيلم، من وجهة نظرنا.
الأول وهو مشهد مفارقة فاندا للحياة، وهو برأينا من بين أقوى مشاهد الانتحار التي تم تنفيذها على امتداد تاريخ السينما من الناحية الفنية، حيث لم تسبقه أية مقدمات أو محاولات أو حتى إشارة ما من أي نوع، وحتى المشهد نفسه، المأخوذ أو المصور في لقطة واحدة، لم يمهد مسبقاً بأي شيء للحظة قفز الخالة من النافذة، فهي تدخن كعادتها وتدير الموسيقا المحببة لها بل وتذهب لتصب لنفسها كأساً من الخمر وتتمشى في شقتها هنا وهناك عارية القدمين، تفتح النافذة كما لو لاستقبال يوم جديد، ثم ترفع من صوت الموسيقا وفجأة تضع السيجارة في المنفضة قبل أن تنتهي 
والكأس قبل أن تفرغ منه وتتجه مباشرة صوب النافذة دون أية مقدمات أو ذرة تردد وتفكير.
المشهد الآخر تنبع قوته بالأساس من بساطة وسحر جمله الحوارية المقتضبة، حيث نشاهد فيه لدقائق جد قليلة إيدا مع صديقها أو حبيبها الموسيقي بعدما انتهيا من ممارسة الحب، وهو يخبرها بأن تذهب معه وفرقته في رحلة يجوبون فيها البلاد ويعقدون الحفلات، فتسأله إيدا وماذا بعد؟ فيخبرها بأنهما سيتزوجان، فتستفسر وماذا بعد؟ فيخبرها نستقر ونكون أسرة، وبعد؟ تسأله، ننجب وتستمر الحياة، ثم؟ فيرد بأنه لا شيء أكثر، تلك هي الحياة، وهذه هي وتيرتها، وهي تمضي هكذا على هذا النحو.